في البدء؛ رحم الله المتوفين من جرّاء حادثة سقوط رافعة الحرم المكي، وكتبهم الله من الشهداء، وشفى المصابين منهم. لا شك أنّ التحوّل من عصر الإعلام التقليدي إلى عصر وصرعات الإعلام الجديد المتلاحقة قد كشف عن انعكاساتها ومدى تأثيرها وفاعليتها في كثير من جوانب الحياة بما فيها الجانب السياسي، وهذا أمرٌ منطقي ولكن الإشكالية تكمن حينما يتماس ذلك مع الأمن الوطني والقومي لأي دولة من دول العالم ومدى القدرة على التواؤم بين كونها فتحاً، ووسيلة للتعبير عن الرأي دون محاسبة سوى الرقيب الذاتي أو المسؤولية الفردية، وبين ضبط استخدامها أو بتعبير أدق استغلال تلك الحرية التي تمنحها لمشروعات ومخططات سياسية تستهدف أمن البلد واستقراره. إنّ التحولات الأساسية في مفهوم هذا الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي وتويتر تحديداً من جهة، والتحولاتٍ الأخرى في تأثيره الاجتماعي من جهةٍ أخرى لا يزال للأسف خارج إيلائه ما ينبغي فعله لا التنظير من خلال مؤتمرات وندوات وكتابات ومقالات أو مجرد شعارات أثبتت كثير من المواقف والأحداث تحوّل تلك المواقع وتويتر كوسيلة تهديد، وتجاوزت مرحلة مجرد الخطر بالتحذير منه كما هو حاصل فقط الآن ولم نتجاوز مجرد ردود الفعل الكلامية لذلك حسابات وهاشتاقات وشخصيات التحريض والتجنيد والاستقطاب مستمرة! لا نحتاج للتذكير بالفارق بين الإعلام في السابق أنه مجرد ناقل للحدث القائم على الأرض، أما اليوم فالإعلام الجديد العكس صحيح باختلاق حدث لم يحصل أصلاً أو التهويل من مجرد حوادث اعتيادية أو توظيف قضايا الناس أو أي أخطاء أو قصور يصدر من أي مؤسسة حكومية في أي دولة كانت وتتكرر ولولا ذلك لما وجدت قوانين لمكافحة الفساد أو هيئة لمكافحة الفساد كما هو قائم فعلياً لدينا سوى أنها محاولات بائسة للنفخ في تلك الأحداث وامتطائها لتحقيق مكاسب شخصية وغايات سياسية تستهدف البلد وأمنه وقيادته. حتى في أكثر دول العالم ممن تتشدّق تلك الشخصيات وحساباتها التحريضية بديمقراطيتها أنه إذا ما ارتأت أن تلك الوسيلة الإعلامية مصدر تهديد لها أو لأمنها فهي لا تتردد حتى بإيقافها أو حجبها! ولتذكير أولئك المحرّضين ودعاة السياسة والفتن فإنه حتى كبار الفلاسفة الداعين إلى حرية التعبير مثل: "جون ستيوارت ميل" مثلاً، طالبوا بالتواؤم بين "حريات التعبير"، وبين "أمن البلد" الذي يعيشون فيه، وأيده على هذا الرأي الفيلسوف الألماني هيغل. أُذكّر بما كتبته في هذه الزاوية قبل بضعة أعوام وأكرّر؛ صحيحٌ أنّه من حسن حظّ الشعب والمجتمع السعودي أن طموحاته التي تطارده يقظةً ونوماً تبقى في إطار الولاء لقيادته، حيث لم يستجب لسيلٍ من التحريض العالمي للخروج وركوب موجات "الثورات" التي لم تكن يوماً متفقةً والنسيج الاجتماعي السعودي الذي لم يبن كيانه على أساسٍ غامض أو دكتاتوريات سياسية جاءت عن طريق الانقلابات العسكرية، بل تكوّن نظامه من خلال بيعة القبائل لأسرةٍ مُنحت من قبل الشعب تفويضاً بالحكم، ولكن حينما يأتي -على سبيل المثال لا الحصر- من يسمي حادثة سقوط رافعة الحرم المكي، من الطبيعي من جرّائها حدوث عدد من الوفيات والإصابات، "بالمذبحة" نذكّر أن مجرّد كلمة أو صورة قد تهدد أمن بلد فماذا نحن فاعلون؟!