×
محافظة المنطقة الشرقية

«أبو خالد» وهي تذرف الدموع: عانيت كشاعرة من قسوة المجتمع

صورة الخبر

أُدرك يقيناً أن صلةً بدأت بعمل ثم تحوّلت إلى أبوّة وصداقة ، لا تكفيها كلمة بهذا الحجم ، لكنها المناسبة فرضت نفسها ، لم يكن ممكناً تفويتُـها والقلم يقف إحلالاً لقامة جسّرت طيلة خمسة عقود تلازماً متناغماً بين السياسة والإعلام لم يُدرك أسراره إلا القليلون من أربابهما ، والقلم يرنو لهامةٍ لم تتطلّع إلا إلى الأعلى وتمتدّ في نظرها إلى الهدف بمنتهى الاحتراف والرّقي والكفاية ؛ - مرّ على الدبلوماسية وكان متفرّداً بأسلوبه وبفكره وطرحه. - ومرّ على الإعلام ، فوضع نهجاً متميّزاً من الإبداع والذوق والأصالة. - وجمع بين الدبلوماسية والإعلام في ثنائية شموخ وأنَفَة ، وكان قبَساً من النزاهة والفكر المتجدّد ، والتطوير الذي لم يتوقّف. شخصيّة هذا المنتدى ، وُلد في منتصف العشرينات من أسرة سعودية من القصيم احترفت التجارة بين نجد وفلسطين وبلاد الشام والعراق ومصر، في رحلات على الجِمال تلاشت بعد انتشار السيارات واشتهرت شعبياً وثقافيّاً باسم " تجارة العقيلات " التي كُتب القليل عنها ، وقد أقام بعض الأسر النجدية في تلك النواحي حتى اليوم ، في حالة شاهدة على طرق التجارة وعلى تواصل اجتماعي قديم تحدوه المخاطر بين عشائر شمال الجزيرة ووسطها. والحجيلان أسر عدة فصّلها الشيخ العبودي في كتابه الحديث " معجم أسر القصيم " الذي صدر الجزء الأول منه عن أسر بريدة فقط ، في ثلاثة وعشرين مجلّداً. كانت دراسته الأوّلية في دير الزور بسوريا ومن أساتذته علي الطنطاوي ، الشيخ الذي ظل الحجيلان يبدي فخراً بالتتلمذ على يديه ، وكان التلميذ مولعاً منذ صغره بالأدب والشعر، حتى ما انفك يتذكر تلك الأبيات التي كان الطنطاوي يستشهد بها من نظم المؤرخ والشاعرالكبير صاحب معجم " الأعلام " خير الدين الزِّرِكلي عقب دخول الملك عبدالعزيز مكة المكرمة ، ومطلعها: صبرَ العظيم على العظيم جبّارِ زمزم والحطيم إن القضاء ، إذا تسلط ،،،،،، ضاع فيه حجي الحكيم وقد انشغل الحجيلان مرّة بإعراب كلمة " صبرٓ " ولماذا وردت مفتوحةً ، وكان الشيخ الطنطاوي مغرماً بشاعريّة الزركلي ، وبوطنياته التي منها القصيدة المشهورة ، تغنّى فيها بموطنه " الشام " وكان الزركلي إذ ذاك مهاجراً في مصر: العينُ ، بعد فراقها الوطنا لا ساكناً ألِفَتْ ،. ولا سَكَنا ريانةٌ بــالدمع ، أقلقهــا ألا تحـس كـرىً ، ولا وٓسنـا كانت ترى في كل سانحـــة حُسناً ، وباتت لا ترى حٓسٓنـا يا موطناً ، عبث الزمان به من ذا الذي أغرى بك الزمنا قد كان لي بك عن سواك غنى لا كان لي بسواك عنـك غنى ما كـنت إلا روضـةً ، أُنُـفـاً كرُمـت وطابت مٓغـرِساً وجٓـنى فلا غرابة أن تظهر لدى الحجيلان موهبة شعرية مبكّرة ظلّ الكثيرون لا يعرفون إلا قليلاً عنها ، تبدّى ذلك مبكّراً في قصيدة وطنية عروبية كتبها في أعقاب حرب فلسطين ( 1948م ) ونُشرت في حينه بعنوان : صوت فلسطين ، قال في مطلعها: يا هزار الصباح ردّد ندائي وارْوِ للشرق محنتي وبلائي وأحسب أنه لو لم يأخذه الطموح لدراسة القانون في مصر ، لكان بكل تأكيد ، انضم إلى قائمة المتخصصين في الأدب العربي. الحديث عن ولٓـع الحجيلان بالأدب وضلاعته باللغة يكشف لعارفيه وهو يتحدث ، عن سر العبارة المنتقاة التي تميّز أحاديثه ومقالاته ومراسلاته ، بكلماته الراقية وأسلوبه الذي يقود إلى فكره ومقاصده ، في ملمح ظل يلازم شخصيته دبلوماسياً وإعلامياً وإدارياً. أضفى عشقه للأدب على تخصّصه اللاحق في القانون وعلى شخصيته ، مهارةً في المنطق وذوقاً في المرافعة ، وحجةً في المواقف السياسية والاجتماعية ، وهو الذي يستذكر مفتخراً بأنه خريجُ مدرسة د. عبدالرزّاق السنهوري ، أحدِ أعلام الفقه الدستوري والفكرالقانوني في الوطن العربي ( توفي عام 1971م ) وكان تضلّع الحجيلان في علوم العربية واشتقاقاتها مكّنه من إجادة الفرنسية والإنجليزية ، كتابةً ونطقاً وتحدّثاًً. عاصر ستة من الملوك السعوديين ، بدءاً بالملك عبدالعزيز الذي أدرك العمل في أواخر عهده موظّفاً في وزارة الخارجية ، مستعيداً تلك المهمّة التي جاءت به من جدة إلى الرياض بُعيد تخرّجه ، مرافقاً ومترجماً لمسؤول إسباني رفيع قابل الملك في أوائل الخمسينات الميلادية. ثم التحق بالعمل الدبلوماسي في السفارة بطهران ( مع السفير حمزة غوث ) وفي كراتشي عاصمة باكستان آنذاك ( مع السفير محمد الحمد الشبيلي ) ولفتت براعتُه الثقافية الأنظار إليه ، فاختير عام 1961م مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر خلفاً لعبدالله بلخير ، في فترة غلب عليها عدم الاستقرار في ميدان الإعلام ، وبعد ثمانية أشهر عُيّن سفيراً في الكويت فور حصولها على الاستقلال ، وكان أول سفير عربي وصل إليها وسمٌي بالتالي عميدٓ السلك الدبلوماسي ، وبعد عام ونصف عيّن أول وزير للإعلام ( مارس 1963م ) في حكومة رأسها الأمير فيصل أواخر عهد الملك سعود. المفارقة الطريفة ، أن الحجيلان كان يكتب للإذاعة قبل أن يتولّى مسؤوليّاته الإعلامية ، وأنه إبّان عمله وزيراً للإعلام كتب تحت اسم مستعار بعض التعليقات السياسيّة ، نشرها في كتابه الوحيد " الدولة والثورة ، الصادر عن الدار السعودية للنشر 1967م في 80 صفحة ". في عهده الإعلامي ، الذي أدرك فيه عاماً ونصف العام من عهد الملك سعود ، وستة أعوام من عهد الملك فيصل ، دُشّنت إذاعة الرياض التي خُصّت بمرسلات عملاقة ، وافتتح التليفزيون في سبع محطات ، وتحوّلت الصحافة من ملكية فرديّة إلى مؤسسات جماعية أهلية ، وشهد الإعلام الخارجي طفرة نوعيّة مكثّفة قوامها الأفلام والكتب والملاحق الإعلاميّة وفيها صارت المملكة قبلةً لزيارات أبرز رجالات الصحافة العربية والأجنبية ، وانتقلت الوزارة إلى العاصمة ، وحظي التلفزيون بخاصة بفرص من برامج التدريب لم تتكرر بعدها إلا نادراً جعلت الشاب الفني السعودي يقف بكفاءة في ذلك الزمن المبكر بمحاذاة الكفايات الوافدة ، وفي عهده أيضاً كان للمرأة أولُ حضور في برامج الإذاعة والتليفزيون. مرّ بعد وزارة الإعلام بفترة انتقالية من أربع سنوات وزيراً للصحة ( 1970م - 1974م ) استرعى خلالها انتباه المجتمع لفكرة الوزير الإداري في مقابل الوزير التكنوقراط ، وكان تبنّى كادراً رائداً لتفرّغ الأطبّاء في المصحّات الحكومية. ثم بدأ مجدٌداً رحلة مع الدبلوماسيّة ، أخذته إلى ألمانيا مدة عامين وإلى فرنسا عشرين عاماً ، مارس خلالها هوايته مع السياسة والإعلام ، بلغة فرنسية رفيعة منتقاة بزّ فيها أقرانه السفراء من الدول غير الفرانكوفونية ، وطبّق خلالها مدرسةً دبلوماسيةً واضحةً ، قوامها الحزم الإداري والانضباط في عمل السفارة ، والتأكيد على تقوية الصلات مع رموز البلاد التي أوفد للعمل على كسب صداقتها ، دون إغفال رعاية المواطنين الذين خصّص لخدمتهم مساعداً متفرّغاً له بدرجة سفير. وفي عام 1996م ، تحوّل نحو عمل سياسي من نوع آخر ، عندما رشّحته المملكة أميناً عاماً لمجلس التعاون الخليجي ، في نٓقلة قرّبته من وطنه بعد طول غياب وجعلته على صلة مع صنف مختلف من الزعامات ، نقلةٍ منحها ما استطاع من خلاصة الخبرة والتجارب السابقة. وهكذا أمضى الحجيلان نحو أربعين عاماً في المجال الدبلوماسي ، بينما لم يقض في المقابل في الإعلام سوى ثماني سنوات ( 1963 - 1970م ) إلاّ أن اسمه ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالإعلام ، فقد مارس العملية الإعلامية في فترة حرجة داخلياً وخارجياً ، وأبدع في الزمن الصعب بما يستلزم صفحات ، ولم يختلف أحد على أدائه الإعلامي المُضيء إلا فيما يتصل بتقدير الإجراء الذي اتُّخذ في عهده بتحويل ملكية الصحافة من مؤسسات فردية إلى مؤسسات أهليّة جماعية ( 1963م ) ونظر الفريقان إلى الإجراء من زاويا متغايرة ، وما يزالان مختلفَين. ومن حسن الحظ أن تقاعده عام 2002 م جاء في عُمر مناسب للاستمتاع بالترحال والتفرّغ لكتابة المذكّرات ، فصار يوزّع وقته بنظام يأنس فيه بأحفاده ، ويلامس محرٌك الإنترنت للبحث والتوثيق ، ويتابع كتابة مذكّراته التي أصبحت تقارب الستمئة صفحة ، كما تفرّغ لأول مرّة لحياة خاصة حافلة بالواجبات الاجتماعية ، يشاطر زوجه أم عماد ( كرم الورّاق ) نشاطها الخيري ويمنّي نفسه بأن يدوّن جهدها التطوّعي ، وهي التي شاركته يُسرة الحياة وقساوتها منذ تزوّجا أوائل الخمسينيات الميلاديّة ، وقامت على شأن بيتهما وتربية أولادهما ( عماد وفيصل ووليد ومنى ) فضلاً عمّا تقتضيه الالتزامات الدبلوماسية من واجبات. ولقد قدّر على الصعيد الشخصي أن يكون كاتب هذه الكلمة أحدَ من صنعهم هذا الرجل على عينه وصاغهم بتوجيهه وابتعثهم بتشجيع منه ( 1967م) وعندما تستعيد الذاكرة اليوم ما تختزنه المراسلات بيننا على امتداد نصف قرن ، فإنه كان الوالدَ والمساند ، و لم يكرّر عليّ أبو عماد قولاً عبر السنوات القليلة الفائتة ، مثل التوصية على مخطوط ذكرياته الذي شارف على الانتهاء يستأمنني في وصيّته على أعز ما يملك ، وهو إذ يسبح بين شواطئ الثمانين المتقدّمة لا يتردٌد في اللقاءات معه في البوح بعُمره ، وفي سرد قصة طفولته الصعبة التي أمضاها في الشام مع والدته وضحى الحجيلان ( ابنة عم والده ) وكيف عانى وإخوته وأخواته بعد وفاة والدهم ، مما هو مفصّل في مذكّراته المخطوطة شبه المكتملة ، حيث المقام لا يتّسع لسرد الذكريات والمواقف مع الشخصيّة المكرّمة. وبعد : اليوم ، وتحت مظلة منتدى عبدالرحمن السديري السنوي للدراسات السعودية في الجوف والغاط وعلى مدى ثلاث جلسات ، تحاور المتخصصون في ميدان الإعلام بشفافية ومصارحة ، عن آفاق المهنة والتخصص ، وعن واقع الإعلام المعاصر الذي حطّم الحواجز التقليدية والجغرافية والرقابية ، فالتقى الأكاديمي والمحترف والناقد والمتلقّي على أديم هذا السهل بجوّه الخريفي الشفيف ، ليقوم المنتدى كعادته باستخلاص رؤاهم وتقديمها إلى الجهات العلمية والتنظيمية والتنفيذية ، ولتبقى وثيقة وطنية عربية كتبها المتحاورون وطلبة الإعلام بمشاركة المستكتبين ومديري الجلسات وهم ؛ د. أحمد عبدالملك ود. أسامة النصّار والأستاذ سمير عطاالله والأستاذ صالح القلّاب ود. عبدالرحمن العناد والدكتور علي العنزي ود. محمد شومان ود. محمد الحيزان ، ومحدثكم. واليوم أيضاً ، يثبت هذا المنتدى الرصين كما فعل في دورات ست سابقة ، أنه يختار بعناية شخصيّة العام ، فهذا التكريم الرمزي للشيخ جميل الحجيلان بتشريفكم ينطبق عليه قولُ أبي العتاهية : لم يكُ يصلحُ إلا له ، والمكرّم بجدارته العالية وبكفايته المستنيرة وإبداعاته النوعيّة وبفكره الراقي ، أهل لتكريم وطني أشمل سبقت إليه مبادرة منتدى الغاط ، تكريمٍ أتى " منقاداً " بكل الاحترام لمؤسّس الإعلام الحديث وصانع العصر الذهبي الذي نرجو أن يعود نوعيّاً بأفضل صيغة تليق بهذاالبلد المجيد. _____________ * بمناسبة تكريم الشيخ جميل الحجيلان في منتدى عبدالرحمن السديري للدراسات السعودية ( ندوة الإعلام اليوم : إعلام بلا حواجز ، الغاط 9 نوفمبر 2013 م.