أمام قصر باكينغهام صرح المنادي الملكي وهو يرتدي لباسًا من القرون الوسطى أحمر وذهبيًا ويعتمر قبعة عليها ريش نعامة ويحمل جرسًا: «نحتفل اليوم برقم قياسي ملكي عند الساعة 17.30 بالتوقيت المحلي». وبهذا فقد أكملت الملكة إليزابيث الثانية، أمس، حكمها بريطانيا لمدة 63 عامًا وسبعة أشهر وثلاثة أيام، وأصبحت أطول ملوك بريطانيا تربعًا على العرش بعد تخطيها فترة الستة عقود التي حكمت فيها الملكة فيكتوريا جدة جدتها الكبرى البلاد. وستتجاوز إليزابيث الثانية في هذه الساعة حكم الملكة فيكتوريا التي تولت العرش 63 عامًا و216 يومًا بين عامي 1837 و1901. وتم تنصيب الملكة التي ولدت عام 1926 عام 1952 على العرش خلفًا لوالدها عندما كانت تبلغ من العمر 25 عامًا. ويصعب تحديد الساعة بالضبط، إذ لا تعرف بالتحديد الساعة التي بدأ فيها عهد إليزابيث الثانية. فقد توفي والدها الملك جورج السادس في نومه في ساعة غير محددة خلال الليل. خلال تربعها على العرش تناوب على حكومتها 12 رئيس وزراء من الأطياف السياسية المختلفة التي تمثل الأحزاب الرئيسية. كما تناوب على الفاتيكان سبعة باباوات و12 رئيسًا في الولايات المتحدة. لكن جون ميجور أحد رؤساء الوزراء الاثني عشر الذين توالوا على رئاسة الحكومة البريطانية خلال حكمها، يؤكد «عندما يتحدث أناس من أقاصي العالم عن الملكة، فهم يقصدون ملكتنا». وقد توقف النواب عن العمل البرلماني قرابة الساعة 10.30 بتوقيت غرينيتش، تكريمًا للملكة، في حين قرعت أجراس دير ويستمنستر في قلب لندن في الساعة عينها. رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كاميرون قاد احتفالات التكريم، أمس، قائلاً: «كانت جلالتها ركيزة للاستقرار في عالم يتسم بالتغير المستمر، حيث نالت الإعجاب بسبب ما تتمتع به من شعور ينطوي على نكران الذات في سبيل الخدمة والواجب». توجد الملكة، 89 عامًا، اليوم في العاصمة الاسكوتلندية أدنبره، وافتتحت القطار البخاري التابع لشركة السكك الحديدية الجديدة «سكوتش بوردرز». وقال وزير البنية التحتية الاسكوتلندي كيث براون «إنه لشرف كبير لنا أن تختار الملكة إحياء هذا الحدث التاريخي بقيادة الاحتفالات الخاصة بافتتاح شركة «سكوتش بوردرز» للسكك الحديدية. وتم تنظيم عشرات الفعاليات الأخرى في شتى أنحاء بريطانيا للاحتفال بهذه المناسبة، مع مسيرات على نهر التايمز ودقات أجراس وطلقات مدفعية. وتقول المؤرخة البريطانية كايت ويليامز، في تصريحات لوكالة «رويترز»، إن الملكة إليزابيث «تجسد القرن العشرين». فقد عاصرت نهرو والإمبراطور هيروهيتو وشارل ديغول. وكان مانديلا يسميها «صديقتي». وشهدت بناء جدار برلين ومن ثم سقوطه، بينما إمبراطورية الملكة فيكتوريا التي كانت الشمس لا تغيب عنها أبدا، تقلصت إلى حدها الأدنى مع إعادة هونغ كونغ إلى السيادة الصينية عام 1997. في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، اقترنت إليزابيث بالأمير فيليب وهو قريب لها، الذي أصبح دوق أدنبره. وقد تخلى عن ألقابه الموروثة من اليونان والدنمارك وعن مسيرته في البحرية الملكية. عندما توفي والدها الملك جورج السادس عن 56 عامًا في عام 1952 من دون أن ينجب ابنا، كانت إليزابيث في سن الخامسة والعشرين ولديها طفلان الأمير تشارلز (1948) والأميرة آن (1950). وقد أنجبت بعد ذلك الأميران أندرو (1960) والأمير إدوارد (1964). وبعد ستة عقود، يجمع الخبراء جميعهم في الشؤون الملكية على القول إن الملكة التي لا تزال تتمتع بكامل قدراتها في التاسعة والثمانين من العمر لن تتنحى يومًا عن العرش. وبمناسبة حلول هذه اللحظة التاريخية التي تضاف إلى مسيرتها الحافلة، لم تخطط الملكة لأي احتفال. وهي غالبًا ما تقول «نو فاس» (لا حاجة إلى هرج ومرج). لكن أجهزة القصر نشرت لهذه المناسبة صورة التقطتها ماري ماكارتني (ابنة الفنان بول ماكارتني)، تظهر إليزابيث وهي جالسة على مكتبها أمام العلبة الحمراء التي تصلها كل يوم تقريبًا من الحكومة. وفي المناسبة ألقت الملكة كلمة مقتضبة في بادرة نادرة جدًا خارج المناسبات الرسمية الكبرى مثل رسالة عيد الميلاد أو افتتاح الدورات البرلمانية. بعد ذلك تناولت العشاء في بالمورال برفقة حفيدها الأمير ويليام وزوجته كايت. وحتى لو اختارت الملكة شعار الرزانة لهذه الفعاليات في سياق ولاية ملكية لطالما تميزت فيها بالتحفظ، فإن عدة فعاليات احتفالية هي مبرمجة في هذا اليوم في بريطانيا للاحتفال بـ«الملكة الأعظم» للبريطانيين، بحسب ما كشف استطلاع آراء حديث أجرته «يوغوف». وتجمع عشرات الأشخاص صباح الأربعاء أمام قصر باكينغهام لالتقاط صور «سيلفي» أمام السياج المذهب للقصر. ويشمل برنامج الاحتفالات مسيرة على نهر التايمز لسفن تابعة للأسطول الملكي «غلوريا» تزامنا مع طلقات مدفعية من سفينة «إتش إم إس بلفاست» الحربية التي حولت إلى متحف. وقد علقت لافتة كبيرة على قمة برج مشغل «بريتيش تيليكوم» في لندن، كتب عليها «فليدم حكمها طويلاً». ومهام الملكة بروتوكولية وهي غير منحازة لأي طرف. وفي البرلمان، تتلو مرة في السنة البرنامج الحكومي محافظة على النبرة نفسها. ويوضح روبرت جوبسون أحد كتاب سيرة الملكة «الدور الأول للملكية هو تمثيل بريطانيا بفاعلية». فالملكة تجوب دول الكومنولث الـ54 وفي مقدمتها الدول الخمس عشرة التي لا تزال هي ملكتها ومن بينها أستراليا وكندا. في العام 1981 تزوج ابنها الأمير تشارلز من ديانا وقد تحولت هذه القصة الجميلة إلى كابوس سريعًا. فقد شكل عام 1992 «سنة رهيبة» بالنسبة للملكة على ما قالت بنفسها. إذ انهارت زيجات ثلاث من أولادها الأربعة، واندلع حريق في قصر ويندسور. في العام 1997 بدت الملكة بعيدة عن الشعب بعدما لزمت الصمت فيما كان الناس يبكون ديانا التي توفيت في حادث سير في باريس. ثم تبع ذلك عملية واسعة لإعادة تلميع صورة الملكة، فقد أقدمت الملكة التي كانت تنتقد على ثروتها ويختها الشهير «بريتانيا»، على دفع بعض الضرائب والتخفيض من نمط عيشها. وبعد وفاة والدتها «الملكة الأم» عن 101 سنة «فرضت نفسها الأم الحاضنة المطلقة في البلاد» على ما يؤكد المؤرخ روبرت لايسي. زواج حفيدها الأمير ويليام من كايت ميدلتون عام 2011 وهي من عامة الشعب ثبت منحى التحديث في العائلة المالكة. وفي عام 2012 احتفلت المملكة بحماسة بيوبيل الملكة الستين. وباتت تحظى بتأييد 80 في المائة من البريطانيين. ومنذ ذلك الحين بات الأمير تشارلز (66 عامًا) يمثلها بانتظام. لكن روبرت جوبسون يقول «يمكنه أن يساعدها لا أن يحل مكانها». وتؤكد كايت ويليامز «ستحكم حتى الرمق الأخير» ومن المستبعد أن تتخلى عن العرش كما فعلت الملكة بيتاريكس في هولندا والملك خوان كارلوس في إسبانيا. لكن لا يعرف الكثير على الصعيد الشخصي عن الملكة التي زارت 132 بلدًا ورسم 139 بورتريه لها وقرأت آلاف الخطابات. ويفيد موقع «بريتيش موناركي» الرسمي أنها لا تزال تمارس الفروسية ولديها 30 كلبًا تسرح في قصرها. وتفيد معلومات نادرة عن أشخاص كانوا في خدمتها إنها تحب توقعات سباقات الخيل والكلمات المتقاطعة. ومنذ وفاة ملك السعودية عبد الله بن عبد العزيز عن 90 عامًا في 23 يناير (كانون الثاني) 2015، أصبحت الملكة إليزابيث الثانية البالغة عميدة سن الملوك في العالم أجمع.