بدأت التحليلات والتوقعات عن زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل بدئها بأكثر من أسبوعين حينما شاع خبرها آنذاك، وكانت التحليلات لا تخرج في معظمها عن قراءات لمقولات تتردد في وسائل الإعلام وتحليلات معلبة عن الزيارة بدأت بأن الزيارة بروتوكولية، وأنها تعويض عن اجتماع الرئيس الأميركي بقادة دول الخليج في كامب ديفيد في مايو الماضي، وعندما أعلن وزير الخارجية السعودي عن أنها ليست زيارة بروتوكولية اتجه الحديث إلى أنها لحل المشاكل العالقة بين البلدين وخاصة موضوع النووي الإيراني واتفاقية أميركا والغرب معها، وفي موضوع اليمن قيل إن الولايات المتحدة التي ساهمت مع دول التحالف في حرب إعادة الشرعية إلى اليمن في عاصفة الحزم وخاصة في الجانب الاستخباراتي سوف تضغط على السعودية لوقف الحرب استجابة لضغوط منظمات حقوق الإنسان، وبدأ المحللون في وضع سيناريوهات لنهاية الحرب وتوقف دول التحالف عن دعم الشرعية، ومثل هذا الكلام قيل عن الحرب في سورية ودعم الإرهاب وغير ذلك. إن ما حدث في أثناء الزيارة والتداعيات والأصداء التي أتت بعدها أوضح أن مسار الزيارة في واد وتحليلات المحللين وتوقعات المستقرئين في واد آخر، فالحديث عن العلاقة الاستراتيجية المستقبلية بين البلدين ليس كلاماً إنشائياً ولا جملة نمطية تزخر بها عادة البيانات المشتركة في نهاية الزيارات، لكن ما حدث هو أن الراصدين والدوائر السياسية والإعلامية في واشنطن قرأت في هذه الزيارة مجموعة من المؤشرات التي ترى أن زيارة الملك سلمان لأميركا رسمت علاقة الشراكة الاستراتيجية في القرن الواحد والعشرين، من خلال حاجة كل واحد منهما إلى الآخر، وتمثلت في المعطيات التالية: 1- إذا تجاوزنا خرق أوباما للبروتوكول واستقباله غير المعتاد للعاهل السعودي على مدخل البيت الأبيض فإن جلسة الحادية عشرة صباحاً والحديث المستفيض على مائدة الغداء واستماع الرئيس أوباما للملك سلمان وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ولآرائهما المستفيضة عن قضايا الاستثمار والاقتصاد والسياسة تعني أنها جلسة رسم سياسة جديدة وليست حل مشاكل عالقة يمكن أن يقوم بها وزيرا الخارجية في البلدين، ويكون اللقاء بروتوكوليا لاعتماد ما تم الاتفاق عليه بالشكل الذي يجري عادة في القمم بين الزعماء. 2- تحدث بعض المحللين الذين التقيناهم في الواشنطن بوست عن أن هذه الزيارة تعبر عن عمق الذكاء السياسي للملك سلمان الذي لم يحضر إلى كامب ديفيد مع قادة دول الخليج بمن فيهم ولي العهد وولي ولي العهد؛ ليحتفظ لزيارته برسم السياسة الاستراتيجية المرسومة بعناية. 3- تأكيد الأميركان على أنها شراكة استراتيجية حقيقية مستقبلية وليست ادعاء من الجانب السعودي، ويتضح ذلك من حاجة الأميركيين للسعودية في أهم 3 ملفات تشغلهم وهي الإرهاب والانتخابات الرئاسية ومعركة الدولار القادمة في آسيا مع الصين وروسيا وباقي الشرق الأدنى. 4- دلالة زيارة الرئيس السابق جورج بوش والأسبق بيل كلينتون للملك سلمان في مقر إقامته في أنها ليست زيارة مجاملة، وإنما هي لتأمين خط السياسة الخارجية للعائلتين اللتين تتنافسان على الرئاسة، وهذا لم يحدث في تاريخ السياسة الأميركية حتى مع زعماء إسرائيل، فالجمهوريون يسعون إلى العودة إلى البيت الأبيض عن طريق جيب بوش كثالث عضو من أسرة بوش يطمح إلى رئاسة أميركا، حيث سيتجه كبار المتبرعين والناخبين إلى بوش الثالث، وهو ما أظهرته استطلاعات الرأي الأخيرة، فيما يسعى الديموقراطيون إلى المرشحة الأبرز في معسكرهم هيلاري كلينتون ليعيدوا سيناريو مواجهة آل كلينتون وآل بوش. 5- حاجة الأميركيين إلى تأمين ظهرهم تماماً في الخليج بقيادة السعودية ليتفرغوا إلى معركتهم القادمة في الشرق مع الصين وروسيا وبقية الدول التي بدأت تباشيرها في السنوات الأخيرة، وأنه لا يمكن لتركيا وإيران وإسرائيل - وهي الدول التي ذكرت مراكز الدراسات الاستراتيجية منذ ثلاثة أعوام أنها أقطاب الشرق الأوسط - أن تغني عن الدور السعودي ودول الخليج الإقليمي المهم. 6- تقوم السياسة الخارجية الأميركية على ثلاث حاجات أساسية هي العلاقة مع أميركا اللاتينية، والعلاقة مع روسيا ودول آسيا، والعلاقة مع دول الخليج، والحاجتان الأخيرتان منها لا تستغني فيهما أميركا عن السعودية. 7- النقطة المهمة والأخيرة هي أن الإدارة الأميركية سواء فاز الجمهوريون أو الديموقراطيون استمعت طويلاً وناقشت بوضوح ولمست من خلال ذلك حكمة الملك سلمان ونظرته المستقبلية، والرؤية المستنيرة لولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومن قبله في مايو إمكانات وإنجازات ولي العهد الأمير محمد بن نايف، وما تتمتع به القيادة السعودية من احترام وتأثير على جميع الأصعدة ما جعلها تقتنع بأن من الأفضل خلق شراكة استراتيجية مع دولة أصبح مستقبلها السياسي والاقتصادي واضحاً ومرسوماً ومستقراً برؤية تنموية وسياسية واقتصادية وأمنية. وتحدثت بعض الدوائر السياسية عن قناعة الأميركان بأسلوب السعودية ودول التحالف في معالجة الأزمة اليمنية، وأن من المهم الاستفادة من هذا الأسلوب في إيجاد حل للأزمة السورية وقناعتهم بأنه لن يكون هناك حل جذري دون الإسهام الفاعل من السعودية ودول الخليج.