×
محافظة المنطقة الشرقية

الإسكان والتعثر

صورة الخبر

«من ناحية عقلية - يكتب الفرنسي أندريه سيرفييه في كتابه «الإسلام وسيكولوجيا المسلم» الذي نشر عام 1923 - يساوي المسلم شخصاً مشلولاً. إن عقله الذي يرزأ منذ قرون تحت وطأة نظام قاسٍ، يقف مغلقاً أمام كل ما لم يخطط له، ما لم يتم الإعلان عنه، أو ما لم يتحدث عنه القانون الديني. فالمسلم يعادي كل ما هو جديد وكل تغيير وتجديد في شكل نسقي». إن مضمون ما كتبه سرفييه قبل قرن تقريباً، يتردد بلغة أو بأخرى في الخطاب الإعلامي والسياسي الغربي الراهن. فقد تختلف لربما أدبيات «الرسالة التحضيرية» في لغتها عن اللغة المستعملة اليوم، ولكنها لا تختلف من ناحية المضمون مع الرؤية العامة التي تسود خطاب الإدماج والهجرة كما تعبر عنه المونوديموقراطيات الغربية، بل قد يلاحظ بعضهم أن اللغة نفسها لم تتغير. إنني لا أتكلم في هذا السياق ضد تأكيد الحكومات الأوروبية على الإرث اليهودي - المسيحي للقارة العجوز، والذي نتناسى دائماً أنه إرث الإسلام، وإرث كل تلك البلدان الإسلامية المتوسطية، مثل المغرب الذي يؤكد دستوره الرافد العبري للهوية الوطنية، وتركيا والشرق الأوسط عموماً. إنني أتكلم ضد سياسة للتراث، تتخذ طابعاً ضيقاً ومسيّساً، كما هي الحال في فرنسا وألمانيا، يهدد بإفراغ هذا الإرث من تعدده، لأنه ما برح يفهمه في شكل انتقائي ويستغله لأهداف سياسية وسياسوية، فمن يتحدث اليوم سياسياً عن الإرث الثقافي، يهدف عادة إلى أمر واحد: إقصاء الآخرين. أعتقد جازماً أن لقاء الآخر، الغريب داخل الحدود الأوروبية وخارجها، أكثر إغناء من كل إرث مسيس، مسكون بأشباح الماضي. إن اللقاء، كما تعلمنا الفلسفة الحوارية الألمانية، منذ فيورباخ مروراً بمارتين بوبر ووصولاً إلى ميشائيل ثوينيسن وبرنهارد فالدنفيلز، يقف على النقيض من كل إغراء هوياتي. فـ «الهوية الأوروبية»، إذا صممنا على استعمال هذا المفهوم، هي، وعلى النقيض مما زعمته جوليا كريستيفا في محاضرتها التي تحمل عنوان: «هل هناك ثقافة أوروبية؟»، ليست «ثقافة» وليست «بحثاً»، إنها أكثر من ذلك، لقاء لا ينضب بالآخر، صيرورة، تجاوز. فالثقافة والبحث، كما تفهمهما كريستيفا، حركة داخل جغرافية الأنا و «حقيقتها»، يخترقهما في لغة دريدا «منطق الأخواتية». سيتحدث الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في لغة متكبرة كعادته ويقول: «من لا يحب فرنسا، فليغادرها!». أجل، يتوجب علينا أن نحذر دائماً من السياسيين الذين يتحدثون عن الحب. لكن ما الذي تقوله جملة ساركوزي؟ إنه حب الشبيه. حب مكتفٍ بذاته. حب يرغم الآخرين على التخلي عن غيريتهم. لا يفعل أكثر من اختزال مفهوم «فرنسا» في جينالوجيا خالصة، مجثتة ولاتاريخية. ليس حباً هذا، ولكنه في لغة نيتشه «سعي محموم نحو ملكية جديدة». وحتى نتحدث بلغة فيلسوف نقدي هو آلان باديو: «لا يمكننا أن نفكر في الحب إلا كمغامرة». يرفض باديو كل «تصور أمني» عن الحب. إن الحب كمغامرة يشترط غيرية الآخر. إنه مستعد أن يضع نفسه موضع سؤال. سيكتب باديو لاحقاً في كتابه «مديح الحب»: «ولكن حين يسيطر منطق الهوية، يصبح الحب في خطر». ينتقد فيلسوف فرنسي آخر هو آلان رونو الخطاب الفرنسي الرسمي حول الهوية الوطنية، ويلحظ أن هذا الخطاب يربط بقوة بين الهوية والهجرة، وأنه ينظر في هذا السياق إلى الهجرة كخطر داهم. ما لم يذكره الفيلسوف الفرنسي هو أنه خطاب يستعمل لغة الكوارث الطبيعية وهو يتحدث عن موجات أو تسونامي المهاجرين. إننا نقف هنا أمام برادايم للغيرة وخطاب عن الوحدة والنقاء مرتبط به. سيسمي جان لوك نانسي هذا الخطاب «خيال هوية أصلية»، ويرى أنه يغفل البعد الحاسم للوجود. فالوجود لا يمكن فهمه إلا كمعية، كوجود مع الآخرين. سينشر في السياق نفسه كاتبان من الكاريبي هما إدوارد غليسون وباتريك شاموزاو رسالة ضد تأسيس وزراة للهجرة والاندماج والهوية الوطنية في فرنسا. يدافع الكاتبان في هذه الرسالة عن الهوية كصيرورة، إذ لا وجود في رأيهما لثابت هوياتي، وليست الهوية بنت القانون ولا هبة من سلطة ولا قراراً مسبقاً تتخذه جماعة أو يقرره فرد مرة وإلى الأبد. إنها مغامرة. إن فهم الهوية كجدار يحجب عني الآخرين و «وسخهم»، و «إغراء الجدار» La tentation du mur يعبران عن سياسة حداثية ضيقة وعاجزة عن إدراك التعدد الذي لا يمثله الآخر فقط، بل يسكن الذات أيضاً. * كاتب مغربي