*أمير العمري من أهم ما شاهدناه من أفلام تسجيلية في الدورة الـ72 من مهرجان البندقية (2-12 سبتمبر/أيلول) الفيلم التسجيلي شتاء مشتعل: نضال أوكرانيا من أجل الحرية للمخرج الروسي إيفغيني أفينيفسكي، الذي يذكرنا كثيرا بفيلم ميدان للمخرجة المصرية جيهان نجيم عن أحداث الثورة المصرية (يناير/كانون الثاني 2011). هناك بلا شك تشابه كبير بين مسار الثورة المصرية وانتفاضة كييف في بدايتهما كحركة احتجاج سلمية ضد نظام فاسد، ثم في تحول الحركتين إلى المطالبة بتغيير النظام وإسقاط رأس السلطة، وهو ما تحقق في الحالتين، ولكن بعد سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. أما ما يجعل بداية حركة الاحتجاج في كييف مختلفة عن نظيرتها في مصر، أنها اندلعت أصلا ضد الرئيس فيكتور يانكوفيتش بسبب مراوغته في توقيع اتفاق شراكة تجارية مع الاتحاد الأوروبي ربما كان يمهد لالتحاق أوكرانيا بالمجموعة الأوروبية بعد ذلك، وهو ما رفضته موسكو حليفة أوكرانيا، خاصة أن يانكوفيتش يتمتع بعلاقة صداقة وطيدة مع الرئيس بوتين. أما الثورة المصرية فكانت تطالب بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية، ثم بإسقاط النظام بالكامل. يبدو فيلم شتاء مشتعل من الناحية الفنية أكثر طموحا من فيلم ميدان، في كونه يتابع -من خلال عدد كبير من أطقم التصوير، انتشرت في مواقع مختلفة، وصورت من زوايا عديدة- أحداث الانتفاضة الأوكرانية بتركيز خاص بالطبع على ميدان الحرية (الذي يطلق عليه الأوكرانيون ميدان) في وسط كييف. ويضم الفيلم عددا من المقابلات التي أجراها المخرج مع النشطاء المشاركين في الحركة، والأطباء، والصحفيين، وضباط الجيش السابقين، ورجال الدين، مع ملاحظة أنهم ينتمون إلى مختلف الأجيال، من الشباب ومن كبار السن، من الطبقة العاملة ومن الطبقة الوسطى، ومن بين أهالي كييف والذين جاؤوا من خارجها وتدفقوا على الميدان إلى أن بلغ عددهم أكثر من مليون شخص، واصلوا الاحتجاج السلمي بإصرار، رغم ما تعرضوا له من قمع لجأت إليه السلطة في التعامل معهم كما نرى في الفيلم تفصيلا. 93 يوما يروي الفيلم تفاصيل الانتفاضة التي استمرت 93 يوما من البداية، من نوفمبر/تشرين الثاني 2013 إلى حين فرار الرئيس يانكوفيتش إلى موسكو في فبراير/شباط 2014. ويستخدم المخرج كتابة التواريخ وأماكن الأحداث على الشاشة، ويضع الأحداث في سياق قصصي سلس، ويغامر فريق التصوير بالتواجد في أشد اللحظات خطورة في المواجهة بين الثوار وقوات الشرطة الخاصة البيركوت، التي لجأ إليها النظام بعد فشل قوات الشرطة وحدها في قمع التظاهرين. ويصور الفيلم كيف بدأ القمع العنيف بالهراوات دون تفرقة بين الشباب والمسنين، أو بين النساء والرجال، ثم انتقل من استخدام الرصاص المطاطي إلى إطلاق الأعيرة النارية الحية، كما نشاهد في الكثير من اللقطات، كيف تصيب الرصاصات الثوار مباشرة وتسقطهم أرضا، وكيف يستمر نزيف الدم يغرق الأرض، بينما تهاجم قوات النظام بضراوة المبنى الذي يستخدمه الثوار كمستشفى ميداني لعلاج الجرحى، ثم تضطر في النهاية إلى حرق المبنى التاريخي بالكامل. يحضر زعماء أحزاب المعارضة إلى الميدان، يحاولون استيعاب حركة الاحتجاج بإلقاء وعود غير مؤكدة والحديث عن اتفاقات مع الرئيس على إطلاق سراح المعتقلين، ويطالبون المحتجين بالانصراف، لكن ممثلي الشباب الثائر يمسكون بالميكروفونات ويعلنون رفض الإنصات إلى السياسيين، ويصرون على القيام بمظاهرة كبيرة حاشدة إلى البرلمان لإرغام ممثلي الشعب المنتخبين على اتخاذ موقف يرغم الرئيس على الاستقالة. إنذار تحولت الحركة من مطلب محدود يتعلق بالعلاقة المستقبلية مع أوروبا، إلى المطالبة بالقضاء على رأس النظام الفاسد وحكومته. ولكن قوات البيركوت التي تستعين بأعداد كبيرة من البلطجية على غرار ما لجأت إليه السلطة في كل من مصر وسوريا، تطلق النار من أماكن مرتفعة أمام الكاميرا مباشرة في تصوير حي يتابع كل تفاصيل الموقف. ولكن العنف ينجح فقط في تراجع المسيرة إلى الميدان حيث يتحصن الثوار ويقيمون المتاريس ويشعلون النيران في عجلات السيارات ويتعهد أحد زعمائهم بأنهم سيلجؤون إلى النضال المسلح إن لم يعلن يانكوفيتش خلال 24 ساعة استقالته. ويستقيل يانكوفيتش في اليوم التالي، وتنتهي حلقة من حلقات النضال من أجل الحرية، لكن الاضطرابات في أوكرانيا لا تتوقف كما يشير الفيلم الذي تنزل عناوينه في النهاية على شاشة سوداء لتخبرنا بأن الانتفاضة التي استمرت أكثر من ثلاثة أشهر سقط خلالها 125 قتيلا، وأصبح 65 شخصا في عداد المفقودين، وأصيب 1890 بجروح، وفقد بعضهم عيونهم كما نرى في الفيلم. من أجل ضمان انسيابية السياق القصصي يركز الفيلم على صبي في الثانية عشرة من عمره، من الواضح أنه ينتمي للأقلية الغجرية في البلاد، يتميز بذكاء ووعي مثيرين للإعجاب، هو الذي يروي من وجهة نظره الكثير من تفاصيل الأحداث، رغم أنه لم يسبق له أن كان مهتما بأية درجة بالأمور السياسية، كما يظهر في الفيلم عدد من رجال الدين المسيحي والإسلامي يعلنون تضامنهم مع مطالب الثوار ويعلقون على الأحداث. ولعل ما ينتقص من قيمة هذا الفيلم كونه يقتصر في تصويره الأحداث على وجهة نظر أحادية، لا شك أنها متعاطفة من البداية مع الثوار، فهو يهمل تماما الجانب الآخر في الصراع، سواء ممثلو البرلمان أو السياسيون عموما، أو الأوكرانيون الذين يؤمنون بالشراكة التاريخية بين أوكرانيا وروسيا وهم الذين يقاتلون في شرق البلاد من أجل الانضمام إلى روسيا ضد قوات الجيش النظامي الرسمي. هذا المأزق التاريخي الذي يحيط بالأحداث ويصبغ خريطة التطورات السياسية في أوكرانيا حتى وقتنا هذا، كان جديرا باهتمام المخرج، خاصة أنه ليس من الممكن اعتبار استقالة يانوكوفيتش وإجراء انتخابات رئاسية جديدة، بمثابة نهاية سعيدة للقصة، بل بداية لفصل آخر جديد في النزاع. كما أن فيلم شتاء مشتعل يهمل التطرق بالتفصيل إلى أسباب الثورة على يانكوفيتش ومعالم فساد نظامه، ويحصر الأمر فقط في موضوع العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، ويصور في أحد مشاهده تعليقا مباشرا على الأحداث من جانب كاترين آشتون، مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، نراها وهي تعلن دعم الاتحاد الأوروبي لحركة الاحتجاج دون أن نرى وجهة النظر الأخرى. ورغم أي ملاحظات سلبية يبقى الفيلم عملا كلاسيكيا له صلة -بالتأكيد- بالمدرسة السوفياتية القديمة في السينما التسجيلية، تكمن أهميته في توثيق الكثير من الصور المباشرة والشهادات، وجرأة فريق المصورين الذين قاربوا الثلاثين مصورا، وبراعة المونتير وقدرته على توليف المادة المصورة الهائلة وتحويلها إلى عمل بصري يتميز بإيقاع حي متدفق، مع إدخال مشاهد موحية شعرية بديعة كما في مشهد الشاب الذي يعزف البيانو وسط المتاريس في الميدان، بينما يتحلق الثوار حوله يستمعون ويتدفؤون في مناخ بلغت فيه درجات الحرارة معدلات قاسية تحت الصفر. لقد كان حقا شتاء مشتعلا... بالغضب! ____________ *كاتب وناقد سينمائي