بعد عامين كاملين من الثورات العربية وما صاحبها من تحولات عميقة على مستوى الدول وامتدادات الرؤى المختلفة في الشرق الأوسط، بدأت تتكشف عن إشكاليات عديدة، ليس أقلها قصورا في الرؤى التي من شأنها بناء الدولة فقط، وإنما أيضا الوعي بالعمل الديمقراطي، بوصفه عملا يضمن مساواة الجميع تحت قانون توافقي، وليس قانونا، خصوصا أن جميع هذه الثورات كانت تطمح إلى مزيد من العدالة الاجتماعية والحرية والاستقرار. كان على الثورات ــ بوصفها خطابا تغييريا ــ أن تفرز عددا من المفاهيم الجديدة، حتى ولو كانت على المنظور الفكري البسيط لرجل الشارع، على اعتبار أنه الفاعل البشري والمنفعل مع كل تلك التحولات، بل وهو المعني من كل ذلك في خطابات السياسيين سواء، لكن الإشكالية التي ظهرت أن الأسئلة الجذرية (السياسية والثقافية) لم تطرح بذلك العمق الذي يمكن له أن يؤسس لخطاب جديد يمكن أن نسميه خطاب «ما بعد الثورة» على غرار الما بعديات الحداثية في الفلسفات الغربية الحديثة. الأسئلة السياسية التي كان يجب أن تفرزها هي حول مفهوم الدولة الحديثة ومفهوم الثورة ومفهوم الديمقراطية وحدود المواطنة الاجتماعية والسياسية على مختلف الطوائف والأديان التي تنتشر في العام العربي. أما على مستوى الأسئلة الثقافية، فهي أسئلة أكثر عمقا تمس علاقة المجتمع بأفكارهم وثقافتهم ومدى التصورات عن الآخر المختلف فكريا ودينيا وحدود مفهوم الحرية الفكرية والدينية والتعبيرية والفردانية والتعددية المذهبية والفكرية وغيرها. تلك الأسئلة لا نجد لها تحريرا فكريا (حتى الآن)، وكل ما نجده هو في نوع من الثورة المتواصلة دون طرح أسئلة الذات العميقة على ذلك الحراك، فضلا عن النقد الذي يمكن أن يوجه إلى كافة التيارات ومدى تصورها للعمل السياسي والديمقراطي؛ بل ومآلات الثورات نفسها. صحيح أنه ليس من السهولة أن تتغير البنى الثقافية بين يوم وليلة؛ بل إنها تحتاج إلى الكثير من العمل والوقت لكي (يمكن) أن تثمر وتخرج بشكل أكثر نضجا. طبعا هذا إذا لم تنحرف مسارات الثورة أو الديمقراطية عن الخط الذي كان يجب عليها أن تسير عليه في تحقيق كرامة الإنسان العربي وحريته، لذلك كنت أشدد على قضية المآلات في أكثر من مقال منذ اندلاع الثورات العربية، حيث هي ــ في رأيي ــ الحكم الأخير في طرح كافة المسائل. بعد وصول الإخوان إلى سدة الحكم ثم خروجهم منه، فإن أمام الثوار فرصة كبيرة لمراجعة الكثير من المسارات الفكرية والسياسية التي آلت إليها الثورات العربية، بحيث يمكن ضمان عدم عودة الأخطاء السياسية مرة أخرى، بل والبحث في أساس المشكلات الفكرية الذي قاد إلى كل ما قاد إليه من قبل ومراجعته مراجعة جذرية، لا تقتصر في نقد الإخوان فقط، وإنما تشمل خطاب المعارضة كذلك، بوصفه خطابا يشمل المعارضة بوصفهم أحد أطياف العمل السياسي الذي يحتاج إلى مراجعة لاعتماده على آليات معرفية غير ما لدى شباب الثورة الذي كان خطابهم الأقرب إلى خطاب الشارع من خطاب الأحزاب ذات المصالح المتفرقة التي ظهرت أكثر ما ظهرت في أثناء الانتخابات الرئاسية خاصة في مصر. هنا يحتاج الشارع العربي أن يعيد حساباته في أحزابه الدينية وغير الدينية لرؤية جديدة تسأل عن أساس الخلل السياسي الذي حصل وتعميق مبدأ الاستقرار السياسي، فالاستقرار مهم لمراجعة الذات وأخطائها التي تأصلت سياسيا لناتج عملي لإشكاليات فكرية أكثر عمقا. المعطيات الفكرية مهمة في تكوين الرؤى الجديدة؛ لذلك لست ممن يرى خفوت دور المثقف في هذه التغيرات الجديدة الطارئ على العالم العربي، إنما أرى أن مهمته تغيرت من الفعل الأيديولوجي والنضالي إلى الفعل النقدي، فهل كانت الثورات سؤالا فكريا أو فلسفيا أو حتى أدبيا لدى المثقفين العرب؟ حتى الآن لم نجد ما يمكن أن يعول عليه، لكن هذا ربما راجع إلى «طزاجة» الحدث الثوري الذي يحتاج إلى سنوات من الاستقرار لوعي ما كان برؤية نقدية فاحصة لا تخشى من الهجوم أو التخوين الفكري والسياسي لمجرد المراجعة النقدية للثورة ومآلاتها، على اعتبار أن النقد من أهم أدوات المثقف أو حتى رجل الشارع العادي الذي كان خطاب رجال الثورات يسير في اتجاهها أو أنه يرفعها شعارا ثوريا لتحقيق التغيير السياسي.