لم تستغرق الرحلة من مطار الملك عبدالعزيز بجدة إلى مطار هيثرو ذهابا وإيابا أكثر من نصف ساعة، رحلة ممتعة من داخل قمرة القيادة بأحد أجهزة المحاكاة بأكاديمية الأمير سلطان لعلوم الطيران، دعوة كريمة تلقيتها من المسؤولين بالخطوط السعودية لزيارة هذا المرفق بصحبة بعض زملائي الأكاديميين، تعرفنا فيها على ما خلف كواليس رحلات الطيران. يعتبر جهاز التدريب واحدا من الكثير من أجهزة التدريب المتنوعة بالأكاديمية، وعلى الرغم من ارتفاع تكلفة تلك الأجهزة إلا أنها توفر مناخا تدريبيا مشابها للواقع بنسبة 99%، فهى مزودة بخرائط تفاعلية لمطارات العالم والتي يتم تحديثها بشكل مستمر، حيث تقوم الأكاديمية من خلال جميع مرافقها بتدريب طياري وملاحي الخطوط السعودية، وبفضل الله حصلت الأكاديمية على شهادات من كبرى شركات تصنيع الطائرات «بوينج وإيرباص» بأن مستوى التدريب بها يؤهل الطيارين لقيادة طائراتها. قبل عقود مضت كان معظم طياري الخطوط من الجنسيات الأمريكية والأوروبية، وكذلك الحال بالنسبة للملاحين الذين كانوا من جنسيات مختلفة، أكثر ما أثلج صدورنا هو أن الأكاديمية تدار الآن من خلال كفاءات سعودية، وأن غالبية المدربين والمتدربين من السعوديين أيضا، ولعل تحول الأكاديمية إلى شركة «كنتاج لعملية الخصخصة» أهلها أيضا للتعاقد مع شركات طيران أجنبية لتدريب أطقمها. على الرغم من أن غالبية ركاب الخطوط السعودية «وعلى الأخص الرحلات الداخلية» من المواطنين إلا أن أغلبيتهم يجهلون ما يحدث خلف الكواليس وما يدور داخل قمرات القيادة، فرحلة الطيران التي تمتد بالنسبة للمسافر ما بين نصف ساعة إلى 16 ساعة على أقصى تقدير، هي في واقع الأمر نتاج سنوات طويلة من التعليم والتدريب الشاق وصقل المواهب وعنايتها لكل من الطيارين والملاحين ومساعدي الطيارين والمهندسين والمضيفين والمضيفات، فالرحلة الجوية لا تتعلق بقيادة الطائرة فحسب، بل هي سلسلة طويلة من الإجراءات المعقدة والمركبة والمتشابكة، تبدأ من توثيق لغات وحركات المسافرين ومراجعتها دوريا وتقييمها على مدار أربع وعشرين ساعة، وتمتد لبرامج شاقة يتدرب عليها متخصصو العمليات تشمل تدريبات أساسية وتدريبات أولية وأخرى تخصصية إضافة إلى ورش العمل التطويرية والإلزامية للأطقم الحالية، وتمتد أيضا إلى التدريب على كيفية استخدام أجهزة الطوارئ والتعامل عند حدوث حرائق أو التعرض للاختطاف أو عند مواجهة الهبوط الاضطراري سواء داخل المياه أو فوق اليابسة. مما لا شك فيه أن الإدارة الحالية للخطوط السعودية أكثر حظا -وفي نفس الوقت أشد عبئا- من سابقيها، وذلك نظرا لكونها تمر بمرحلة تحول إستراتيجي من فكر قطاع عام بيروقراطي رتيب لا يعرف التجديد ولا يواكب المتغيرات، لفكر تجاري جديد يعي جيدا المتغيرات ويسعى بجدية لمسايرتها ومواكبتها والتسلح بأحدث الوسائل والنظم للتغلب على مشكلات المنافسة العالمية وتحدياتها، ولاشك أن عملية التحول هذه ستتطلب وقتا وجهدا لا يستهان بهما. من المؤكد أن خصخصة المؤسسات التابعة للخطوط السعودية ومنها أكاديمية علوم الطيران، تسمح بتحقيق المزيد من الموارد المالية، الأمر الذي سيسهم في قيامها بتوسعات أفقية ورأسية في جميع الأنشطة، مما سيضاعف معدلات الإنتاجية الحالية، وسيفتح لها الفرصة لتصبح أول مركز عالمي لإجازة الكفاءة في علم الطيران، من جهة أخرى نحن كمستخدمين مازلنا نعول الكثير على هذا المرفق، فنشاط الطيران هو أحد الأنشطة ذات السمة التنافسية التي تتميز بالتجديد السريع والمستمر، والتي تتطلب أيضا الكثير من الجهد، ومن خلال ما شاهدناه ولمسناه يمكن القول أن المؤسسة تسير بخطى ثابتة نحو العالمية والسعودة في شتى المجالات. من المؤسف أن الكثير من مرافق القطاع العام يعتريها القلق والتخوف من الإعلام والإعلاميين، وكثيرا ما تتملكني الحيرة فيما إذا كان هذا التخوف في محله أم لا، فالإعلام ذو وجهين وجه حسن ينقل الواقع والصورة بدقة، ما للمرفق وما عليه، ووجه آخر نسميه الصحافة الصفراء الذي ينقد ولا يصحح، يهدم ولا يبني، نتمنى من جميع المرافق وخاصة تلك التي لها تعامل مباشر مع المواطنين أن تقوم بين الحين والآخر بتوجيه الدعوة للإعلاميين للوقوف على طبيعة إنجازاتها وتعريفهم بالتحديات التي واجهتها من أجل نقل صورة محايدة شفافة للجمهور، فأمامنا العديد من التحديات التي تحتاج المزيد من العمل والتكاتف والمثابرة، لنعبر نحو المستقبل بخطى واثقة وطموحات واعدة.