يقول الدبلوماسي البريطاني العريق هارولد نيكلسون في كتابه (الدبلوماسية) :إن الدبلوماسيين التقليديين العتاة يرون بأنه من الابتذال غير المتصور إشراك عامة الناس -غير المختصين، وغير الملمين- في مسائل السياسة الدولية. كان هذا الاعتقاد سارياً حتى بداية الحرب العالمية الثانية، إلا أن اختراع الشبكات اللاسلكية وانتشار البث عبر الأثير، واستقبال إشارات الراديو في البيوت، دفع بالدعاية Propaganda لتكون أسلوباً من أساليب العمل السياسي، وهو ما أتاح للمتلاعبين بالرأي العام، كأدولف هتلر وغيره، ممارسة الإثارة الشعبية كسلاح لتحقيق المكاسب في الداخل والخارج. أما اليوم وفي زمن الثورة الهائلة للاتصالات، وتقنية المعلومات، وأدواتها وتطبيقاتها، وأنظمة التواصل الإجتماعي؛ فإن من الغباء تجاهل عامة الناس في مسائل السياسة، الخارجية منها والداخلية، سيما مع ظهور ما بات يعرف بـالطريق السريع للمعلومات، أو ال هاي وي ، والذي نشأ عنه تحول عميق في مسار البشرية، يصفه (تروبين كرو) بأنه قدم للإنسان فرصاً غير مسبوقة للاتصال والتفاعل، وجعل الشعوب أمام سيل جارف من الاخبار والمعلومات، وهو ما زاد بشكل مهول من فرص استغلالهم من قبل المتلاعبين بالرأي العام، وبالتالي اتساع رقعة تعرض العامة، وبكثافة للدعايات المغرضة والأخبار المضللة. لقد تغيرت طبيعة المجال العام الذي يعيش فيه الأفراد إلى ما بات يعرف بالمجال الإفتراضي، وصار لديهم الرغبة في، والقدرة على، التعبير عن آرائهم بحرية متناهية في قضايا السياسة العامة، وأن يدلو بدلوهم. بناءً على تصوراتهم التي بنوها وفق ما لديهم من معطيات. وحيث توصلت دراسات علمية حديثة، لنتائج مؤكدة، مؤداها أنه من السذاجة بمكان اعتبار أن الرأي العام، المحلي أو الأجنبي، يمتلك دائماً وجهة نظر مبنية على معلومات مؤكدة، أو رأي متماسك بشأن المسائل ذات الصلة بالقضايا السياسية الوطنية، والدولية. فإن هذا كله يقودنا للتأكيد على أهمية تلبية تلك الرغبات الشعبية المتزايدة للتفاعل في مثل هذه القضايا، وذلك عبر إشراكهم في العملية الدبلوماسية، وجعلهم عنصراً إيجابياً فاعلاً متفاعلاً، بدل أن يكونوا مجرد عرضة للتلاعب من قبل الجهات الدولية التي تسعى لتحقيق مصالحها على حسابهم. وهذا لا يتأتى على الوجه الصحيح، إلا بتحقيق حدٍ أدنى من الفهم لدى هذه الشعوب، ووعي مقبول، بالقضايا والسياسات الوطنية وأهدافها وفق معلومات صحيحة موثقة. وهو ما يعني بأن الدبلوماسية الشعبية اكتسبت في الوضع الراهن، قدراً أكبر وأخطر من الأهمية. وكثيراً ما أُسأل: ماذا تقصد بالدبلوماسية الشعبية؟! كون طرح مثل هكذا مواضيع يعد حديثاً نسبياً – خاصة على المستوى العربي سيما وأن أول دراسة علمية أكاديمية مختصة بالدبلوماسية العامة الشعبية على مستوى المملكة والخليج العربي كانت رسالتي المقدمة استكمالاً لنيل درجة الماجستير في الإعلام. حسناً، لن أعرج هنا على التعريفات العلمية، وتجاذبات الباحثين حول المصطلح، لكني سأتناوله من منظور أراه الأقرب للزاوية الشعبية، الأقرب لنا كشعوب، كأفراد منتمين لهذه المجتمعات، لهذه الأوطان العربية. تعريف أجده ممثلاً لرغباتنا كمواطنين في التفاعل الإيجابي البناء للمساهمة في تحقيق مصالحنا نحن، الصغيرة منها قبل الكبيرة، والتي تصب بالمحصلة في مصالح الدين والوطن، أوهكذا مفترض، أو هكذا ينبغي. سواء أكانت تلك المصالح على صعيد حفظ الأمن والاستقرار، أوعلى الصعيد الاقتصادي والصناعي وتحسين مستوى الدخل، أوعلى صعيد التعليم والصحة والخدمات والتنمية بكافة أشكالها. وإذا ما نظرنا للمصطلح من هذه الزاوية تحديداً، فأمكن القول بأن الدبلوماسية الشعبية تعني كل شكل من أشكال تواصلنا كأفراد مع شعوب الدول الصديقة الأخرى بهدف جذبهم لنا، وتحبيبهم فينا، عبر تعريفهم بنا وبأوطاننا بالشكل الصحيح، من نحن؟ وكيف نعيش؟ وما أهدافنا، وآمالنا ورغباتنا، فأن يعرفونا على طبيعتنا وعاداتنا وثقافاتنا وتراثنا وديننا يعني أنهم سيحبونا ويحبوا وطننا، وديننا الإسلامي الوسطي السمح الحنيف، وهو ما يعني تحقيق التأثير الإيجابي في رؤاهم واتجاهاتهم تجاهنا، وتجاه ديننا وأوطاننا، ومن ثم انعكاس أثر ذلك في سياسة بلدانهم الخارجية لصالحنا (علميا واقتصاديا وصناعيا وسياسياً). سيما وأن العلاقات بين الدول دائماً ما كانت تبنى وتتأثر بالصورة الذهنية التي تبنيها الشعوب عن الدول الأخرى وشعوبها، فكما أن السمعة الشخصية مهمة للفرد، ويتوقف عليها مصير علاقاته وتعاملاته مع الآخرين، والثقة المتبادلة بينهم، فإنه يمكننا أن نقول الشيء ذاته فيما يخص سمعة الدولة وشعبها. وبالتالي فإن الاتجاه السائد المتبنى من قبل الرأي العام في دولة ما تجاه سمعة شعب دولة أخرى ينبني عليه إما قبول أو رفض للوضع القائم فيما يخص العلاقات والمصالح المشتركة بين هذه الدول، وهو ما يؤثر بشكل فاعل في تنفيذ السياسات على الساحة الدولية. فلماذا تُحَتِم علينا هذه المرحلة المساهمة -كمجتمع -في صنع دبلوماسية شعبية فاعلة؟ وكيف يا ترى يكون هذا التفاعل وتلك المساهمة الإيجابية في تحقيق مصالحنا على المستوى الشعبي؟ هذا هو موضوع المقالة القادمة، وإلى ذلك الحين لكم مني أطيب التحية وأعظم التقدير،،، رابط الخبر بصحيفة الوئام: زمن الرأي العام ودبلوماسية الشعوب!