تواصل الساحتان السياسية والعسكرية في إسرائيل انشغالهما في مناقشة سبل التعامل مع الملف السوري الذي ما زال يتصدر الأجندة، وإذا ما كان الوضع يتطلب تغيير قواعد اللعبة، على أكثر من صعيد، خصوصاً لدى الحديث عن الرد على أي قصف صاروخي تتعرض له إسرائيل. الواضح أن حال الإرباك في كيفية التعامل ما زالت سيدة الموقف. أجهزة الاستخبارات تواصل بحث الوضع. أمنيون وعسكريون سابقون يعرضون مواقف متباينة تعكس طبيعة النقاش الإسرائيلي ومدى التردد في حسم الرد. لكن الكل يتفق على أن اشتعال هذه المنطقة ليس إلا مسألة وقت. وهي لا تتوقف على مجرد صاروخ أو أكثر تسقط على مستوطنات الجولان أو في الجليل ولا حتى عملية تفجير تقوم بها إسرائيل بذريعة أن خلية أو أكثر تحاول تنفيذ عملية ضد أهداف إسرائيلية. فالحسم في الملف السوري ما زال ضبابياً وإسرائيل من جهتها تواصل كل جهد حتى تحصل ولو على قطعة صغيرة من الكعكة التي تسعى أطراف عدة لتقسيمها. الإسرائيليون لم يحسموا موقفاً أو تقديراً واضحاً حول الخلفية لإطلاق الصواريخ الأخيرة، لكنهم يدركون تماماً أن المسألة لم تعد محصورة في المناطق الحدودية، المستوطنات الأقرب من القنيطرة أو تلك القريبة من منطقة وقف إطلاق النار. أما تزامن هذه التطورات مع تصعيد الحملة الإسرائيلية ضد الاتفاق مع إيران، فجعل البعض يربط بين الملفين. والجنرال احتياط يعقوب عميدرور الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في حكومة بنيامين نتانياهو السابقة، خرج بدعوة إلى متخذي القرار بضرورة الاستعداد إلى سيناريوات غير متوقعة وبالأساس «الاستعداد لاحتمال مواجهة التأثيرات السلبية للاتفاق في مكان غير متوقع مثل سورية»، وقال: «يجب إيجاد التوازن الحساس في الرد الحاد بما يكفي من أجل تأكيد الجدية، ولكن ليس رداً يؤدي إلى تدهور الوضع». وبالنسبة للمستقبل، يضيف: «لم تظهر حتى الآن دلائله على الأرض، ولكن علينا أن لا نفاجأ إذا ترك الاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران تأثيراً سلبياً في سورية. فمن جهة، هناك خوف من أن يؤدي سير الولايات المتحدة مع إيران إلى وقوف عدد أكبر من السُنّة إلى جانب تنظيم داعش المتطرف. ومن جهة أخرى، من المعقول جداً أن تشعر إيران (وربما ليس وحدها) بأنها باتت أقوى في أعقاب الاتفاق، وأن ينعكس ذلك في تعميق التدخل في سورية لمصلحة الأسد، وبذل جهود أكبر لمد حزب الله بسلاح حديث ودفع عمليات في هضبة الجولان». سيف ذو حدين هل يتوجب على إسرائيل الرد على الصواريخ بالقصف؟ الرد على هذا السؤال يظهر الانقسام الإسرائيلي. فهناك من يدعم موقف رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو ووزير الدفاع، موشيه يعالون، بضرورة الرد الفوري ترافقه تهديدات بعدم السماح لأي طرف كان بأن يحول الحدود الشمالية إلى وضعية الحدود الجنوبية، تجاه غزة، بالقصف بين فترة وأخرى والرد في شكل قاطع وعدم الاكتفاء بإطلاق النار فقط على منطقة الحدث أو توجيه ضربة موضعية لمنفذي العملية فقط. وهناك من يرى أن الوضع على الحدود السورية، حتى اليوم، لا يستحق الرد الإسرائيلي. وموقف ثالث يقول أن إسرائيل منشغلة جداً في التهديد الإيراني، حتى وإن كان خطيراً بحد ذاته، لدرجة أنها تتجاهل القوة الجهادية السنّية الصاعدة في أرجاء سورية، على شكل حركات متمردين متطرفة، كالدولة الإسلامية (داعش) أو كتلك القريبة من «القاعدة». لذلك، تدعي هذه الجهات أنه عندما يتحقق هذا التهديد، لن تكون إسرائيل جاهزة كما ينبغي لمواجهته، وهو أمر يتطلب الاستعداد الدائم والرد المناسب. في سياق مناقشة هذا الموقف الإسرائيلي تطرق أحد التقارير إلى الوضع الداخلي في سورية، وهو مبني على تقديرات استخبارية إسرائيلية. ويتحدث التقرير عن «أنه تعمل في هضبة الجولان اليوم قوات من المتمردين، المتباينة من حيث تطرفها، في القسم الجنوبي فقط. وفي الوقت الحالي لا ينشط هؤلاء ضد إسرائيل، وإنما يركزون على إسقاط الأسد ونظامه. لا أحد منهم يعتبر مؤيداً كبيراً لإسرائيل، بل إن العكس هو الصحيح، كما يبدو، لكنّ لديهم هدفاً يعملون عليه، وطالما لم يتحقق هذا الهدف، فإنهم لن يتفرغوا لمواجهة أعداء آخرين». ويضيف: «في المقابل، في وسط الهضبة وفي شمالها تنشط قوات تؤيد الحكم العلوي وتخدمه. وهي تحافظ على اتصال مباشر مع إيران أو مع حزب الله الذي يعتبر الذراع الطويلة للسلطة الإيرانية في المنطقة. السلاح والمال والتوجيه، بل وأحياناً القيادة في الميدان هي إيرانية، أحياناً بالتعاون مع حزب الله وأحياناً من دونه. صحيح أن الأميركيين يدعون أنهم تلقوا وعوداً من إيران بأنه سيتم في أعقاب الاتفاق النووي وقف قسم من نشاطات الإرهاب والعداء الإيرانية، لكن المسؤولين الإيرانيين الكبار في لبنان وسورية لم يسمعوا عن ذلك بعد، بل إنهم يوسعون نشاطهم. الجهاد الإسلامي الذي ذكر اسمه كضالع في الحادث الأخير، هو تنظيم أقيم ويمول ويعمل بتوجيه إيراني مباشر. ويتبع، بمقدار ما، لنزوات إيرانية حتى أكثر من حزب الله الذي يحافظ على مظهر خارجي من الاستقلال اللبناني»، وفق التعبير الذي جاء في هذا التقرير. بنظر الجنرال احتياط عميدرور فإن إسرائيل تواجه مسألتين مختلفتين. الأولى تتعلق بالسياسة الأسرائيلية العامة بالنسبة للحرب في سورية: حرب العلويين والشيعة ضد السنّة، حرب المنظمات الجهادية، «جبهة النصرة» و «داعش» ضد الجيش السوري، المسنود من جانب إيران وروسيا ويعمل إلى جانب «حزب الله» وميليشيات شيعية أجنبية. ويتساءل: - هل ينبغي على إسرائيل أن تتخذ موقفًا وتعمل ضد أحد الطرفين أو لمصلحة أي منهما؟ - هل تفضل النظام المعروف بكل ما يرافقه من مشاكل، أم تفضل المنظمات المتطرفة جداً التي امتنعت حتى الآن عن العمل ضد إسرائيل؟ المسألة الثانية، بنظر عميدرو، مختلفة جوهرياً، ولكن يمكنها أن تؤثر أيضاً في جواب السؤال الجوهري: كيف يجب أن ترد إسرائيل عندما تتعرض لعملية تستهدفها في هضبة الجولان؟ هل تكتفي فقط بالحد الأدنى اللازم وبتركيز ردها على القطاع الذي وقع فيه الحادث؟ أم إن عليها توسيع ردها كي تردع من يقف وراء العملية؟ وفق رأيه، على إسرائيل الحذر جيداً من تحولها إلى جزء من الصراع في سورية، فمن ناحيتها لا يوجد أي طرف أفضل من خصمه. أمام التطرف الذي لا يمكن فهمه والوحشية غير الإنسانية لـ «داعش»، تقف قدرة «حزب الله» في مصلحتها. وكلما ضعف الأسد، أصبح أكثر تعلقاً بإيران و «حزب الله»، ولكن تقل قدرته على مساعدتهما، وربما الأهم من ذلك أنه سيجتذب «حزب الله» إلى العمل في سورية، على حساب قدرات المنظمة على الجبهة مع إسرائيل. فلماذا يجب على إسرائيل التدخل في مصلحة أي من الأطراف؟ أليس من الأفضل أن تستنزف الأطراف دماء بعضها بعضاً؟ لماذا يجب على إسرائيل المخاطرة بحياة جنودها، ولمصلحة من سيكون عدوها غداً أو بعد غد؟ يتساءل عميدرور، ويقول: «يبدو أنه سيكون من الصعب على إسرائيل مواجهة عدو تقف خلفه دولة تساعده على التضخم، أكثر من مواجهة تنظيم قد يكون أكثر وحشية، ولكن لا توجد دولة ملتزمة مساعدته على بناء قدراته. وإذا أخذنا هذه القاعدة في الحسبان، فإن إسرائيل لا تملك أي مصلحة في التسهيل على حزب الله وعلى حليفه الأسد، على رغم أن البديل هو تنظيم رهيب مثل داعش. ولكن في الوقت نفسه، يبدو أن إسرائيل لن تكسب شيئاً إذا ما سرعت سقوط الأسد وساعدت على فتح الباب أمام سيطرة منظمات سنّية متطرفة على ما يتبقى من سورية. وعليه، يبدو أن عدم تدخل إسرائيل هو السياسة العاقلة. في المقابل». يضيف الجنرال الإسرائيلي: «هناك نوعان من الأحداث يجب على إسرائيل أن تعمل فيهما من دون مراعاة لمسألة مَن هو الطرف في سورية الذي ستخدمه في عملها. الحال الأولى عندما تقوم إيران أو سورية بنقل أسلحة إلى حزب الله تخرق التوازن، وتوفر له قدرات من شأنها أن تعرقل إسرائيل في كل مواجهة مستقبلية. في مثل هذه الحالة على إسرائيل منع نقل السلاح بالقوة، من خلال عملية دقيقة قدر الإمكان، ولكن من دون مراعاة لعمق العملية وقربها من ممتلكات أولئك الذين يساعدون السلطة – سواء كانوا من رجال الأسد، أو الإيرانيين أو حتى الروس. الحدث الثاني هو عندما يتم تنفيذ عملية مباشرة ضد إسرائيل من هضبة الجولان أو من منطقة أخرى. بعد حدث كهذا، على إسرائيل محاولة العثور على منفذي العملية، وإذا كان الأمر ممكناً على من أرسلوهم – والمس بهم. وعندما لا تتوافر إمكانية كهذه ينبغي ضرب أهداف توضح لمن يرسلون منفذي العمليات بأنهم غير محصنين. ويجب أن تكون التلميحات التي يبثها الرد شديدة الوضوح بما يكفي من أجل إيضاح موقف إسرائيل». مدينة إنقاذ في الجولان الانشغال في الملف السوري لم يقتصر فقط على الجانبين الأمني والعسكري. وهناك من راح يناقش ما إذا كان يتوجب على إسرائيل استمرار تقديم العلاج الطبي للمقاتلين الجرحى، وما إذا كان يجب الاستعداد لاحتمال وصول لاجئين سوريين إليها. الرئيس السابق للكنيست، أبراهام بورغ دعا إلى إقامة ما سماه «مدينة إنقاذ»، في منطقة الجولان السوري المحتل لإيواء اللاجئين السوريين مع فتح الحدود لهم. وبرأيه مساعدة فورية للاجئي سورية هي الأمر الصحيح من ناحية وتشكل فرصة وحيدة لمد يد أخرى تجاه الشرق الأوسط، يد سلام ومساعدة. ولإقناع الإسرائيليين بموقفه، يرسم بورغ صورة أمام الإسرائيليين لوضعية إسرائيل في حال فتحت الحدود، فيقول: «تأملوا لحظة بإسرائيل التي تفتح أبوابها وتدعو المجتمع الدولي ليكون حاضراً وشريكاً في إدارة الموقع. متطوعون من البلاد والخارج سيدعون إلى المشاركة في المهمات الإنسانية هناك. أطباء ومعلمون بلا حدود سيعالجون ويعلمون. الحركات الشبابية والمنظمات المدنية ستتبنى شباناً وشابات في ساعات فراغهم، يساعدون العجزة ويمدون يد العون لجميع المحتاجين. بعد ذلك سيسقط نظام الأسد، لأن قدره تحدد، وسيعود اللاجئون إلى منازلهم، إلى دمشق وحمص. وسأشك في أنه سيكون حينذاك سفراء أفضل منهم لإسرائيل، أولئك الذين نجوا بحياتهم بسبب حقيقة بسيطة هي أن إسرائيل، لأول مرة في تاريخها، قامت بتغيير توجهها الاستراتيجي تجاه المنطقة. لو حدث ذلك حقاً، فإن مصير إسرائيل سيتغير رأساً على عقب، من عزل دولي إلى إخوة ووحدة مع أبناء المجتمع الشرق الأوسطي المشترك. وربما أخيراً سنكون قادرين على القول: الخير سيأتي من الشمال»، يقول بورغ.