ناجي العلي (يمين)أنجز نحو 40 ألف رسم كاريكاتيري قبل اغتياله بلندن سنة 1987(الجزيرة) زهير حمداني قبل ربع قرنرحلرسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجى العلى، الذي كرس الهم الفلسطينيتيمة أصيلة في إبداعه الفني، وجعلت رسوماته المبدعةالقضية الفلسطينية عنوانا عالميا، وبعد رحيله الفاجع في لندن ترك العلي أنهارا من الحبر الجميلوأيقونته حنظلة مشيحا بوجهه، لكنه ينجم بالمستحيل فلا يستحيل على حد قول المبدع الآخر مظفر النواب. سطر العلي تجربةفريدة في فن الكاريكاتير السياسي مثلت مزيجا متوالفا بين الرسم والكتابة، وكلاهما حملا شحنة تعبيرية عبر المجاز أو المباشرةلامس فيها أكثر القضايا حساسية وتجاوز فيها المقدس الرمزي، ليعمد إلى تقديس الشعب وقضاياه. استمد ناجي العلي موضوعاته من معاناة الناس وهمومهم، بدءا من قرية الشجرة بين طبريا والناصرة -حيث ولد عام 1937 على الأغلب- وكانت تجربته في اللجوء إلى مخيم عين الحلوة في لبنان وما شاهده من معاناة علامة فارقة في مخيلته الإبداعية،فكبر فيه الهاجس الفلسطيني وتعاظم حلم العودة والحفاظ على الهوية الفلسطينية. " قتل العلي في لندن عام 1987 ويكتنف الغموض عملية اغتياله ويتهم جهاز الموساد الإسرائيلي بشكل أساسي باغتيال الرسام فقد كانت رسوماته شديدة الوطأة على الكيان الإسرائيلي المحتل " اعتقلت القوات الإسرائيلية ناجي العلي وهو بعد صبي لنشاطاته المعادية للاحتلال، وداخل الزنزانة قضى معظم وقته يرسم على جدرانها، كما اعتقل مرات من قبل الجيش اللبناني،وباتت جدران السجن هي المعلم والمرسم الأول، مماأنتج لديه توجها فنيا شديد الواقعية موغلا في الالتزام، ولا يقبل أنصاف الحلول. كانت رسوماته بجملها الطويلة المعبرة قريبة مناليومي والعادي في الشوارع الفسطينية والعربية، وأسلوبه التلقائي في التعبير عن انفعالاته ورفضه للواقع تلج بيسر إلى وجدان المواطن العربي أينما كان.ولا تستمد رسوم ناجي العلي قوتها من الفكرة التي تعبّر عنها فحسب، بل خاصة من قدرتها على تجسيد تلك الفكرة وشحنها بحيوية لا تفقدها بساطتها وسهولة استيعابها وتمثلها. وبنفسه اليساري والقومي، لم يكنالعلي يمثل الفلسطيني فقط، رغمأن المسألة الفلسطينية تيمة رئيسية، بل يتعرض أيضا لهموم الكادحين والبسطاء من الناس ومشردي الأوطان في كل مكان بنفس إنساني ووطني، فرسوماته بذلك كانت تشكل متنفسا جماهيريا ومنبرا لصوت صدح بالحقيقة والحرية. ولعل أبرز ما يميز فن ناجي العليالبعد الأخلاقي الكبير، فرسوماته صادمة بوضوحها وشفافيتها، فهي لا تراوغ أو تواري أمام الجرائم التي شاهد اقترافها بحق فلسطين أو أي بلد عربي آخرا ولا تجامل أحدا. كان الصحفي والأديب الفلسطيني غسان كنفاني أول من اكتشف نبوغ العلي، قد شاهد ثلاثة أعمال من رسوم ناجي في زيارة له في مخيم عين الحلوة، فنشر له أولى لوحاته وكانت عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد تلوّح، ونشرتها مجلة "الحرية" في 25 سبتمبر/أيلول 1961. عمل ناجي العلي في السفير اللبنانية قبل أن يسافر إلى الكويت عام 1963 ليعمل محررا ورساما ومخرجا صحفيافي عدد من الصحف الكويتية بينها الطليعة والسياسة والقبس الدولية، وترك أربعين ألفرسم كاريكاتيري، كرسته أحد أعظم رسامي الكاريكاتير العرب وضمن النخبة في العالم. كان أحد أبرز رسوماتناجى العلى "حنظلة"، وهى شخصية ابتدعها تمثل صبيا في العاشرة من عمره، وقد ظهر رسم حنظلة في الكويت عام 1969 في جريدة السياسة الكويتية، أدار ظهره في سنوات ما بعد 1973 وعقد يديه خلف ظهره، وأصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته. لقي هذا الرسم وصاحبه حب الجماهير العربية كلها خاصة الفلسطينية، لأن حنظلة هو رمز للفلسطيني المعذب والقوي، رغم كل الصعاب التي توجهه، فهو شاهد صادق على الوقائع ولا يهاب أحدا، ويبقى حنظلة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية، كما يقول العلي. " كان ناجي العلي يعرف أن رسوماته ستكون قاتلته، وهو القائل: اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله.. ميت " أطلقت على العلي رصاصات كاتم صوت أردته في لندن عام 1987، ويكتنف الغموضعملية اغتياله. ويتهم جهاز الموساد الإسرائيلي بشكلأساسي باغتيال الرسام، فقد كانت رسوماتهشديدة الوطأة على الكيان الإسرائيلي المحتل.كما تطول الاتهامات منظمة التحرير الفلسطينيةباعتبار أن بعض أعمال الفنان كانت تمس بعض قياداتها. كما أن بعض الأنظمة العربية التي كان ناجي العلي يوجه انتقادات لاذعة لها يراها البعض مسؤولة عن اغتيال الفنان الذي لم يوفر أحدا من انتقاداته، التي كان السياسيون العرب يضيقون بها ذرعا. رحل رسام الكاريكاتير العربي الأشهر في العاصمة البريطانية يوم29 أغسطس/آب 1987، ودفن في لندن رغم طلبه أن يدفن في مخيم عين الحلوة بجانب والده، وذلك لصعوبة تحقيق طلبه. وبلغة إنكارية يتساءل الشاعرالكبير مظفر النواب "أأنت الوديع كساقية من خبايا الربيعقتلت؟؟ وغص بنعيكمن قتلوك كأنك مقتلهم لا القتيل.. لم استفردوك بقبر عدو وراء الضباب؟؟ومن يا ترى شركاء الجريمة؟؟ مهماكان منفذ الاغتيال فقد كان عشق فلسطين في النهاية هو قاتل ناجي العلي، إذ يضيف النواب "يقولون يا زهرة الحزن مت، وضاع أريجك خلف الضباب، وأغلق عمر جميل من الحزن والاحتجاج الطفولي.. عمر حكيم من العشق.. تحضن فلسطين بين جناحيك دافئة كالحمامة، تطعمها بشفاهك، تتضور قبل تضورها.. ترسم نفسك متجها للبقاع، العروبة.. كل فلسطين. ومثل المتنبي الذي قتله أحد أبياته التي قالها، كان ناجي العلي يدرك أنه رسوماته ستكون قاتلته، وهو القائل "اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله: ميت"، والرجل الذي لم ينكر قط انحيازهللعامة وللبسطاء ولمن هم "تحت" كما يقول، بالتأكيد لم يرض من كانوا "فوق"في زمن كان كاتم الصوت فيهلغة رائجة.