لغاية الخامس من سبتمبر (أيلول)، أي موعد الحفل الأخير لـ«مهرجانات بيت الدين»، الذي ستغني خلاله الفنانة المصرية ريهام عبد الحكيم، أغنيات أم كلثوم، يبقى جبران خليل جبران، ضيف القصر الشهابي التاريخي، ومعبرًا محببًا للجمهور العريض، قبل وصوله إلى المدرجات. فقبل موعد كل حفل بما يقارب النصف ساعة، يطلب صوت نسائي جميل، من الحضور الكريم الدخول إلى باحة القصر كي يتسنى له مشاهدة معرض لوحات جبران خليل جبران، التي احتلت منذ يونيو (حزيران) الماضي إحدى القاعات الجميلة في هذا المبنى التاريخي الذي يعود إلى القرن السابع عشر. ويحرص منظمو المهرجان سنويًا، على استضافة معرض يتزامن مع الحفلات، رغبة في جعل الحضور قادرين على ضرب عصفورين بحجر واحد. وهذه السنة، للمعروضات قيمة استثنائية، خاصة وأنها تعود إلى أحد الأدباء اللبنانيين الأكثر عالمية وشهرة، وهي بنسخها الأصلية ومستعارة بشكل مؤقت، من «متحف جبران خليل جبران» في بلدة بشري. وإذا كانت بعض المعروضات هي مما تسنى للمهتم مشاهدة صوره على الإنترنت أو في الكتب فإن البعض الآخر يستحق متعة المعاينة، وخصوصا المخطوطات. فقد خصص صندوق عرض زجاجي لعدد من المخطوطات التي كتبها جبران بيده، بعضها باللغة الإنجليزية، والآخر بالعربية. خيار موفق لمنظمي المعرض، فمن بين الدفاتر المعروضة ما كتب على إحدى صفحاته الأديب بالإنجليزية والعربية معًا وقد ازدانت برسوم عفوية لوجوه وأشخاص وخطوط مبهمة في بعض الأحيان. أسلوب جبران في الرسم متفرد لا يمكن أن تخطئه عين. بعض الصفحات من المخطوطات المعروضة كتب عليها في كل الاتجاهات، بالطول والعرض. هنا يكتب جبران اسمه، وهناك يلصق ورقة صغيرة للذكرى، أو يشطب جملة سجلها، مما يعطي فكرة عن العفوية في تسجيل الأفكار التي كان يلجأ إليها. رغم قلة عدد المخطوطات إلا أنها انتقيت بعناية لتبدو معبرة عن الطريقة التي كان يكتب بها جبران، ومن بديع ما يمكن أن ترى، في هذا المعرض، صفحة واضحة جدًا، لمقالة «لكم فكرتكم ولي فكرتي». بالإمكان معاينة ما شطب، وكيف استبدلت بعض الكلمات، وأضيفت أخرى أو حذفت غيرها. وكيف أن جبران كان يلجأ هو نفسه إلى فصل المقاطع عن بعضها البعض، مرتبًا إياها، عائدًا إلى أول السطر، كلما شعر أنه سافر إلى فكرة جديدة. إنها من المرات القليلة التي تغادر فيها مجموعة ثمينة إلى هذا الحد متحف جبران، في مسقط رأسه بشري، لتعرض في مكان آخر من لبنان، وهي فرصة للسياح الذين لا يستطيعون الوصول إلى المتحف لرؤية هذه الكنوز الفنية دون تكبد عناء الوصول إلى شمال لبنان، إضافة إلى البورتريهات المعروفة التي رسمها جبران لنفسه، ثمة رسائل بخط يده، ورسومات أخرى زيتية وغيرها بقلم الرصاص. هناك الطبيعة الجبلية التي استوحاها من بلدته الخلابة بشري، والتي من وديانها وجبالها الشاهقة الخضراء، قريبا من الأرز، قرأ الحكمة ومسارات البشر. من بين اللوحات نرى «الأم في الطبيعة» التي ترفع رأسها إلى السماء مناجية الغيب، و«الرجل وسيمفونية الطبيعة» لذاك الشخص الممدد جسده في الخلاء، وبورتريه رسمه لنفسه عام 1980، يبدو فيه وجهه والظل وكأنما هو أكثر من شخص في وقت واحد، وبورتريه رسمه لوجه ميخائيل نعيمة كتب عليه بخط يده: «مهداة إلى ميخائيل تذكارا في يوم مولده سنة 1922» اللوحات كثيرة منها زيتية «الرجل في البحث عن الوجود» التي تظهر فيها شخوص جبران الأثيرية وكأنها تهيم في سديم رافعة رؤوسها إلى الفضاء، و«الوجود الخالد» التي تقبل فيها امرأة شخصا على جبينه من الصعب أن نعرف أي نوع من الحب يربط بينهما، هل هو ابن أم زوج أم رفيقة. إنها المحبة التي كتب عنها جبران كثيرًا، ووحدة الوجود الذي طالما أراده نهجًا. بمقدور زوار المعرض أن يستمتعوا بفيلم قصير لميلاد طوق أنتجته «لجنة جبران خليل جبران الوطنية»، إذا ما أتيح لهم الوقت، وهو عن حياة الكاتب وفكره، كما بمقدورهم متابعة جانب من فيلم «النبي» الرائع، الذي أنتجته الفنانة الهوليودية سلمى حايك، وأطلقت عرضه الأول من لبنان منذ عدة أشهر. ولا ينتهي الأمر هنا مع جبران، فقد خصصت صالة أخرى، لصور مزيد من اللوحات، إضافة إلى فاترينات عرضت فيها طبعات كتب جبران بلغات العالم، وبمقدورك أن ترى طبعات قديمة ونادرة لكتب له بالصينية واليابانية والإسبانية، والإيطالية وغيرها. لم ينل كاتب عربي لا شهرة جبران ولا عالميته. هذا الانتشار الكبير لكاتب لبناني، لا يزال متواضع التقدير في المنطقة. معرض جبران في بيت الدين الذي مكّن آلاف الزوار من التعرف بعمق أكبر إلى نتاجاته الفنية، مجرد مساهمة في جهد يجب أن يبذل، كي يعطى جبران جزءًا من حقه الذي يستحق بين قومه. وإن أردت أن تحتفظ من هذا المعرض بذكرى في منزلك فثمة من يستطيع أن يزودك بكتيب جميل جدًا فيه لوحات المعرض وشروحات عنها يحمل عنوان «جبران.. تحية إلى الوطن الأم»، وقد تشتري لوحة زيتية مؤطرة بشكل فني تعلقها على أحد جدران بيتك، كي تبقى ذكرى هذا المعرض حية في مخيلتك.