×
محافظة المنطقة الشرقية

استمرار إدارة أدبي الأحساء

صورة الخبر

منذ بداية حقبة السبعينات من القرن الماضي وضعت حركة النقد النسوي في الغرب، النقد الأدبي والإبداع أمام إشكالات ثلاثة: الأول المنطلقات الأبوية للنقد الذكوري في معاينة النص النسوي، والثاني الموقف الفكري من إعادة قراءة الأعمال الإبداعية النسوية في ضوء ما أنجز على طريق تحرر المرأة، والثالث الإجابة عن سؤال مفاده: هل من الضروري فحص السياقات الاجتماعية والثقافية للأدب والنقد عند قراءة النص النسوي؟ هذه الإشكالات كانت حاضرة أمامي وأنا أقرأ قصيدة (الآخرون) للشاعرة الهنوف محمد، فالنص سياق إبداعي مواجه أو موازٍ لمجموعة سياقات مختلفة: اجتماعية، ثقافية، سياسية، اقتصادية، وفكرية، وهذه السياقات كما يرى النقد الثقافي تمارس جميعها قوة ضاغطة ضد حرية النص، لذلك كانت القصيدة النسوية الإماراتية تمثل محاولة للتمرد على السنن الموروثة التي تعيق حرية الوجود وتحد من الخيارات، ومن هذا المنطلق يمكن قراءة القصيدة النسوية في الإمارات على أنها نص مواجه للسياقات السائدة في الثقافة، وهذه المواجهة تتضح في معظم المنجز الشعري النسوي في الإمارات، وتعد قصيدة (الآخرون)، للشاعرة الهنوف محمد أنموذجاً لهذا التمرد. في مفتتح القصيدة يبدأ التمرد واضحاً بالتصريح الآتي: عبادة كهذه.. لا يدركها إلاّ هواء ونار.. ويضع هذا التصريح القارئ أمام أسئلة البحث عن العبادة المقصودة وجدوى الوجود في هذا العالم، ولكي يمسك القارئ بعلامات تلك القضيتين (العبادة والوجود)، فإنه لابد أن يلاحظ أن صيغة الخطاب في القصيدة هي ال(أنا) المطلقة على الرغم من أن العنوان (الآخرون)، وتلك أول مفارقة مظهرية في علاقات النص وبناه، ولكي نتعمق بهذه المفارقة نشير إلى أن النص استعار فكرة العبادات الأولى للبشرية من أجل ترسيخ رسالته في وعي القارئ، فالنار والهواء من العناصر التي خلق الله آدم منها مع التراب، وهذه الفكرة راسخة في بعض الديانات القديمة، وهناك ديانات أخرى تؤمن بأن الماء هو العنصر الرابع لخلق آدم ولذلك كان افتتاح القصيدة يتضمن السطر الآتي: (تمادت ألوان الماء، أجرمتني). ليصبح مدرك العبادة في النص (الهواء والنار والماء)، وهي علامات خلق الرجل الذي يشكل طرف الحياة الآخر بالنسبة إلى المرأة، وهذا الطرف لا يحقق كمال وجوده إلاّ في جدل الحرية والسلطة مع الأنثى والسياقات التاريخية التي تحكمت في علاقة الطرفين، ويعبر النص عن هذه الجدلية في السطر الثاني بقوله: كان لا بد لي أن أوقف السمراء التي بداخلي من انسياب تجاه الآخر تشير هذه السطور إلى ندم الأنثى من ارتباطها بالرجل والموقف الرافض للتجربة التي أودت بحريتها، وهي نتيجة تؤكد وجودها في علاقات النص المختلفة يسيّرني كيفما يحلو له، وأخيراً أوصلني إلى الأربعين لأجفّ ولا أقوى على الحصاد. المفارقة الثانية في النص تكمن في البنية الإيقاعية، فالقصيدة تنتمي إلى النثر المتمرد على الإيقاع المنمّط، ولكنها في الوقت نفسه تعتمده أثراً موسيقياً ينتمي إلى بحور مختلفة مثل: الرجز والمتدارك، وهي إيقاعات تنتظم أحياناً في تفعيلتين أو ثلاث في سطر واحد، خاصة في بدايات السطور الشعرية، ويبدو أن هذا الأثر نتاج الذائقة المتوارثة بالنسبة إلى الشاعرة، ولكن مع هذا الأثر يبرز الإيقاع الداخلي بوصفه عنصر تعويض لنمط الوزن من خلال التكرار والعلاقات الصوتية المتوازية في السطر الشعري الواحد والسطور الشعرية المختلفة مثل: مشاكسته، مشاغبة، أزمنة أرصفة، والملاحظ أن هذا الانسجام موجود في بعض علاقات النص بصيغتيه الصوتية والدلالية (مات القلب في دلو الحياة)، أمّا التشكيل البصري فهو الآخر متسق من خلال اعتماد القصيدة على سطر شعري شبه متساوٍ باستثناء سطرين طويلين يؤديان وظيفة مغايرة في النسق، حيث يعلن النص فيهما خلاصة تجربته في حركة الحياة، كما يشكل نقطة ارتكاز للانتقال من مرحلة إلى أخرى في حياة الأنثى: الحكايات الأولى للطفولة، تقترف الكآبة مثل الصراخ الأول للأجنة، أوصلني إلى الأربعين لأجف... إن هذين السطرين الشعريين يمثلان التجربة في خلاصتها بالنسبة للأنثى، فقد وصلت إلى الأربعين عاماً وبدأ الخصب ينضب، ومعه ينتفي أهم شرط في وجودها بالنسبة للرجل والمجتمع والسنن والأعراف، وهذه الحقيقة هي التي جعلت أنثى النص تتمرد على كل تلك القوى الضاغطة من أجل تحقيق ذاتها خارج الأطر التي رسمت لها بالتعاقب التاريخي في الوجود البشري. يُدخل النص قارئه في إشكالية البحث عن المعنى، فهذا النص يمتاز بمحاولة الانتماء المستمر إلى الشعر على الرغم من السياق النثري المستمر في علاقاته واللغة التي تبدو يومية في مظهرها ولكن بجوهر شعري كما في السطور الآتية: أتشبث بالظلال، الهلاك قامته من نار أما التراب فاخترته ذكراً، إن هذا التداخل بين لغة الشعر واللغة اليومية ينطوي على فكرة مركزية قوامها جدوى ارتباط الأنثى بالآخر وأحلامها وتجربتها، ففي المراحل المختلفة يطرح النص كيفية مواجهة الطفولة للحياة والخوف من أسرارها، يقول: في طفولتي كنت أخشى أن تجف مياه البحار والأنهار، كنت أصرخ في وجوه الناس لا تسرفوا في إهدار الماء، أمّا في مرحلة المراهقة فإن القلق هو الذي يحتوي الأنثى لأن الرغبة في هذه المرحلة تصطدم بالأعراف والقوانين والقيم بوصفها محركاً للسلوك، الأمر الذي يدفع الأنثى لأن تعيش مرحلة الخيارات الصعبة، يقول النص: في مراهقتي تيقنت أن السواد والبياض هما من أسباب الربو الإنساني والآن تتناسل متضادات الحياة، الخريف والربيع كما الشتاء والصيف. وفي مرحلة الارتباط بالآخر (الرجل) تطرح القصيدة فكرة النهايات من خلال السطر الأتي: يسيّرني كيفما يحلو له، وأخيراً أوصلني إلى الأربعين لأجف ولا أقوى على الحصاد، أمّا بشأن خلاصة الرحلة مع الآخر فهناك ندم مستمر يتضح في مفردات (كان لا بد لي) التي تتكرر في بداية معظم مقاطع القصيدة، لذلك لا يمكن الوصول إلى تأويل متكامل لعلاقات النص للأسباب الآتية: إن هذا النص يعمد على التقويض المستمر لتراتبية المحتوى الأمر الذي يؤدي إلى تحطيم بنية السرد الخاصة بالنثر، كما أن هذا النص غالباً ما يحاول استثمار تقنيات الشعر لترسيخ جنسه الأدبي ومن هذه التقنيات التشبيه والاستعارة، فالصور في المقاطع الأولى في النص تعتمد على التشبيه المباشر ومن ثم يغادرها تماماً ليستخدم الصورة التقريرية والاستعارة ويشتغل التشبيه على هذا النحو: عبادة كهذه...أيقظته كتداعيات...الخريف والربيع كما الشتاء...يأتي مثل حضور المطر، أمّا الصور التقريرية فهي نتائج رحلة الوجود، لذلك ينتهي التشبيه ويبرز التقرير والاستعارة كما في المقاطع الآتية: أجرمتني لحظة التلطخ... أتشبث بالظلال رغم أنني أدرك أنها واقع مدمر، أن فكرة التشتيت في الخطاب مهمتها التقويض وتحميل النص فلسفة خاصة تبدأ بالعبادة وتنتهي بها لتؤكد أن الآخر هو الجحيم (كما تطرح الفلسفة الوجودية هذا الموقف)، إذاً فخلاصة التجربة (نتائجها) كانت محبطة في وجود الأنثى، وعلى هذا الأساس انتهت القصيدة إلى قناعة مضمونها أن العودة إلى الجذور الأولى وإعادة إنتاج الوجود مرة أخرى ربما تسهم في إنهاء دورة الإحباطات التي تعيشها الأنثى تاريخياً، وأن الحل الأمثل لواقع المرأة الراهن العودة إلى العبادة والتخلي عن الأنثى الباحثة عن الآخر، وهي فكرة فيها من التصوف الكثير، يقول مقطع الخاتمة: لا بد لي أن أرجع إلى ماهيتي الحقيقية... كومة طين بشفاه وعينين وذراعين، حقيقة أن أبقى بلا (آخر)، بلا ضعف مؤكد. الآخرون أدركوا الموت مبكراً، فرشوا له دروعاً من خوف، لكنني أخشى الموت لأنني لم أفرش للميتافيزيقا بيادر الطاعة. والملاحظ هنا أن صيغة (كان لابد لي) تحولت إلى (لابد لي)، في نهاية النص وهذا التحول شكل إصراراً على تحويل مسارات القدر والمآل الذي تنتهي إليه الأنثى. وإذا كان النص في مظهره يبدو أنه بحث عن معنى الوجود فإن جوهره شديد الإيمان بالقدر من خلال العودة إلى الإرادة المطلقة التي تسير الحياة (أخشى الموت لأنني لم أفرش للميتافيزيقيا بيادر الطاعة)، وهي مفارقة أخرى في حركة النص. إن الملاحظ في هذه القصيدة أنها تبدأ من النتائج ثم تنتهي بالمقدمات وهذا السياق موضع شدّ للقارئ الذي يحاول ملء فجوات النتائج من خلال التفاصيل التي يوضحها النص بالتتابع، وهو يعلل النتائج التي توصل إليها، ولهذا يمكن القول إنها قصيدة ذاكرة وتحتمل تأويلات مختلفة، خاصة فكرتها وفلسفتها ولذلك يمكن عدّها من العلامات البارزة في الشعر النسوي المعاصر في الإمارات.