شوقي بزيع ليس ثمة من بلد في العالم يختزن في داخله قدراً عالياً من المفارقات كما هو الحال مع لبنان. ليس فقط بسبب الجغرافيا اللافتة التي تتيح لمساحته الصغيرة أن تتوزع بين البحر والجبال، وبين أرحب السهول وأعمق الأودية، بل أيضاً بسبب تاريخه الحافل بالتحولات حيث الكيان يتسع أحياناً ليلامس تخوم حمص شمالاً وعكا جنوباً، ثم يضيف أحياناً أخرى ليصبح زمن المتصرفية جزءاً من الجبل الذي يحمل اسمه لا تتعدى مساحته الكيلومترات القليلة المربعة. وفيما هو يتلامس مع أكثر تجليات الحضارة الغربية صلةً بالحداثة والأناقة ومغامرة الإبداع من جهة، ينكفئ من جهة أخرى إلى خندق التعصب الطائفي والمذهبي والحزبي، مولِّداً كل بضع سنوات حرباً أهلية ماحقة. كأنه كوكتيل غير مسبوق من الثقافات والمفاهيم والعادات والتقاليد والإثنيات التي لجأت عبر التاريخ إلى جباله المنيعة هرباً من الجور والطغيان وعتو القوميات وتغيّر الدول. على أن كل أقلية لجأت إليه لم تكن معنية بالاندماج بسواها من الأقليات والانصهار في النسيج الوطني المشترك، بل احتفظت بكل طقوسها وشعائرها وعلاماتها الفارقة بحيث بدا البلد من بعض وجوهه بابلاً جديداً للأزمنة والمفاهيم واللغات المختلفة. لذلك وقف لبنان دائماً على التخوم القصوى للرخاء أو البؤس. للتنوع أو التناحر، وللحروب الدموية أو هناءة العالم، لأصوات فيروز، ووديع الصافي، وصباح، ومرسيل خليفة، أو لأصوات المتعصبين الخارجين من أقبية الظلام وكهوف القرون الوسطى. والذين استمرأوا نعت البلد الصغير بالمختبر فلم يكونوا مجافين كثيراً للحقيقة، حيث إن للكيمياء قدرتها الخلاقة على التوليد والاكتشاف وقطف ثمار المعادلات الناجحة، فيما يمكن لها في الجانب الآخر، ولسوء في التقدير، أن تفجر المختبر بمن فيه وتحول المغامرة غير المدروسة إلى جحيم حقيقي. ولن تعوزنا الشواهد بالطبع للتدليل على المفارقة اللبنانية التي تنتصر للحياة بكل أشكالها، وتنحاز للجمال في كل تعبيراته الروحية والجسدية والمعرفية، فيما تذهب راضيةً إلى النقيض من كل ذلك لتنتقم من صورتها في المرآة، أو لتهدم الهيكل على من فيه. هكذا تتواجه الحياة مع الموت في لبنان بكل أنواع الأسلحة والمهارات الفتاكة. ويتواجه في كل لبناني نرسيس، والمركيز دو ساد، أو النرجسية محتفية بجمالها على حافة الماء، والسادية محتفية بقسوتها على حافة الرعب وتعذيب النفس والآخر. قد تكون كارثة النفايات التي تملأ شوارع بيروت وغيرها من المدن والقرى اللبنانية، ولا تجد من يطمرها، هي الدليل الأبلغ على ازدواجية المعنى اللبناني الذي يذهب أصحابه إلى منتهى الأناقة الباذخة على الصعيد الفردي، فيما تزكم الروائح المنبعثة من المزابل والقاذورات المتروكة في كل مكان أنوفهم وتدفعهم إلى الاستعانة بالكمامات كما لو أن مفاعلاً من وزن تشيرنوبل قد انفجر للتو. وبدلاً من أن يتضافر الجميع لإيجاد الحلول الناجعة، فهم يكتفون بتبادل الاتهامات والتنصل من المسؤولية وانتظار حلٍّ يهبط من السماء أو يأتي من الخارج، كما يفعلون في السياسة. وحيث تلامس الحرارة أربعيناتها وينقطع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار والليل لا يجد الناس من سبيل لاتقاء الكارثة سوى اللجوء إلى شاطئ، أو العودة إلى جبالهم العالية للتنعم بهوائها الطري، بعيداً عن الرطوبة الدبقة لهواء بيروت الساخن. على أن النصف الآخر للمشهد اللبناني الصيفي لا يتطابق في شيء مع نصفه الأول، حيث ترتجل الأعجوبة اللبنانية مخارج مدهشة لإنقاذ الواقع من فساده والحياة من بلادتها. فعلى امتداد مساحة لبنان تتبارى المدن والقرى في إقامة مهرجاناتها الفنية والثقافية والفولكلورية التي تغص بمئات الوجوه من المغنين والراقصين والمسرحيين والشعراء والموسيقيين من لبنان والوطن العربي، وكافة أرجاء المعمورة. وحيث احتفت بعلبك بالذكرى الستين لتأسيس مهرجانها الشهير عبر أشعار أدونيس، وخليل مطران، وناديا تويني، وطلال حيدر، ولوحات فنية بالغة التميز، لم ترض مدينة البترون في الشمال بأقل من صوت شارل أزنافور لكي يصدح على شواطئها، فيما عبرت ماري ماثيو عن فرحها بالعودة إلى جبيل بعد غياب طويل بالدموع وتهدج الصوت. وكذلك الأمر في إهدن، وبيت الدين، وجونيه، وزحلة، وكل بقعة تنتظر دورها مع الفن والإبداع والفرح الجمعي. وحيث المنطقة برمتها تتحرك على صفيح ساخن تبدو الحياة في نكهتها اللبنانية مزيجاً من الخوف والأمل، من الحذر الشديد والمتعة الخالصة، ومن الغرق في أكوام النفايات، والغرق في متع الحواس، وفرح الفن والانتشاء بمباهج العالم.