حتى الذين لا يؤمنون بنظرية المؤامرة يقرّون بصحة هذه النظرية في حالة جريمة اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي الذي مرت أمس الأول ذكرى مرور 50 عامًا على اغتياله. كيندي لم يكن رئيسًا أمريكيًا عاديًا، فقد كان رئيسًا شابًا يتمتع بالحيوية والوسامة، وكان أول رئيس كاثوليكي في تاريخ الولايات المتحدة، وأول رئيس يجسد الحلم الأمريكي، وكان بطل التحدي في معركة خليج الخنازير التي اعتبرت البداية الحقيقية للحرب الباردة، وفوق ذلك كله كان الرئيس الأمريكي الأول الذي لم يزعج إسرائيل فقط، وإنما أيضًا المافيا، والماسونية، والسي آي إيه، وخصوم سياسيون كثيرون داخل الولايات المتحدة على رأسهم الرئيس ليندون جونسون الذي ترأس الولايات المتحدة بعده. لذا فإن مئات الكتب وعشرات الأفلام الوثائقية التي صدرت بعد اغتياله أشارت بأصابع الاتهام إلى كل هذه الأطراف بأنها وراء اغتيال هذا الرئيس الذي كان معشوق الشعب الأمريكي عندما شكل هو وزوجته الجميلة جاكي (كبل) رائعًا في المكتب البيضاوي، وعندما أصبح نموذجًا سعى الكثيرون من رؤساء أمريكا الذين جاؤوا من بعده إلى الاقتداء به، بما في ذلك الرئيسان بيل كلينتون وباراك أوباما. في لغز اغتيال كيندي الذي فشلت لجنة وارين في حله، والذي لم يزل لغزًا محيرًا بعد مرور نصف قرن على تلك الجريمة، تبقى إسرائيل المتهم الأكثر احتمالا، فهي المستفيد الأكبر منها، وأيضًا، لأن الجرائم الكبرى التي يصعب اكتشاف مرتكبيها - ومنها جريمة اغتيال الرئيس أبوعمار الذي مرت ذكرى وفاته العاشرة قبل بضعة أيام- غالبًا ما تحمل البصمات الإسرائيلية. هذه الفرضية تدفعنا إلى طرح السؤال: وما هو دافع إسرائيل للتخلص من كيندي؟ يعتبر ألان هارت من أوائل من أجابوا على هذا السؤال، إنما بطريق غير مباشر. فهو يقول في كتابه: (الانحياز- قصة العلاقات السرية بين أمريكا وإسرائيل) الصادر عام 84، والذي قمت بترجمته ونُشر على حلقات في جريدة "عكاظ" في حينه، يقول في الفصل الثامن تحت عنوان: "أمريكا تقرر الانحياز"، أن الطفرة الأمريكية الكبرى في المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل حدثت في عهد الرئيس جونسون، حيث التزم الرؤساء الثلاثة من قبله (أيزنهاور وترومان وكيندي) بالاتفاق الثلاثي المبرم عام 1950 بين أمريكا وبريطانيا وفرنسا بعدم توريد الأسلحة لدول المنطقة. وتبدأ القصة بطلب الرئيس كيندي من بن جوريون خلال لقائه معه في فندق أستوريا عام 61 بإجراء تفتيش على مفاعل ديمونة. وفي ديسمبر 62 التقى كيندي بجولدامائير في بالم بيتش بفلوريدا وأفهمها أن أمريكا ليس بوسعها تقديم أكثر مما هو متاح لإسرائيل "على حساب صداقتنا مع الدول الأخرى"، وأضاف: "إذا اقتصرت روابطنا مع إسرائيل، وأهملنا علاقتنا مع الدول العربية، فإن ذلك لن يكون من مصلحة إسرائيل". وأوضح كيندي لوزيرة الخارجية الإسرائيلية في ذلك الوقت، الصعوبات التي تحول دون مساعدة إسرائيل، وهي: تحويل مجرى نهر الأردن والغارات الانتقامية الإسرائيلية في مناطق الحدود، واستمرار مشكلة اللاجئين". تلك كانت بعض نقاط الخلاف، وليس كلها، ففي نوفمبر 63 طرحت واشنطن مشروعها لحل قضية اللاجئين خلال انعقاد دورة الأمم المتحدة، وهو ما أزعج إسرائيل التي كانت تفضل أسلوب التفاوض المباشر مع كل دولة عربية على حدة خارج نطاق الأمم المتحدة. تكتمل الإجابة على السؤال بالترحيب الشديد الذي أظهرته وسائل الإعلام الإسرائيلية واللوبي الإسرائيلي في أمريكا بحلول جونسون محل كيندي، حيث بدأ التدشين الحقيقي للشراكة الأمريكية-الإسرائيلية الإستراتيجية بما يعتبر نقطة التحول في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.