يبقى السؤال المهم، بعد التوصل للاتفاق النووي بين مجموعة 5+1 وإيران: ما مستقبل العلاقات بين الطرفين الرئيسيين، الولايات المتحدة وإيران؟.. إيران كانت تعتبر الولايات المتحدة الشيطان الأكبر، وبكراهيتها لأمريكا حافظت على بقاء نظامها، بل إن هذه الكراهية أو الأيديولوجيا إحدى مكونات شرعية النظام الإيراني، والولايات المتحدة كانت تعتبر إيران مصدراً للإرهاب في كل العالم، وأنها عامل عدم استقرار على المستوى الدولي بتبنيها ودعمها للجماعات الإرهابية. فهل تتغير هاتان النظرتان؟ وهل تتخلى إيران عن طموحاتها الإقليمية؟ وهل تستجيب لمستحقات المرحلة التالية للاتفاق النووي؟ العلاقات الأمريكية الإيرانية سينطبق عليها المبدأ الميكيافيلي لا صداقات ولا عداوات دائمة في السياسة، وإنما مصالح مشتركة. وهذا أساس النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، والتي تقوم على أن القوة والمصالح هما اللتان تحكمان علاقات الدول. ولعل منطقة المصالح المشتركة التي تحكم الدولتين هي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام ومنطقة الخليج ذات الأهمية النفطية والاستراتيجية لكليهما، الثابت في هذه العلاقات هو المصالح، والمتغير هو عنصر القوة، فالولايات المتحدة لها مصالحها الاستراتيجية الحيوية في هذه المنطقة، وستبقى هذه المصالح قائمة لعقود مقبلة، وليس كما يقال إن الولايات المتحدة قد تتخلى عن هذه المنطقة التي تشكل منطقة قوة، وهي ضرورية للحفاظ على القوة الأمريكية، وحتى الإيرانية، ولذلك تداخل العامل الدولي باعتبارات المصالح يتجاوز كل المحددات الأخرى تاريخية كانت أو جغرافية، ويعرف ذلك بالاستراتيجية العابرة الإقليمية، وهذه الاستراتيجية العابرة هي التي تفسر لنا التمدد في المصالح الاستراتيجية لدولة قوة عالمية كالولايات المتحدة، والربط بين هذه المصالح والحفاظ على هذه القوة تعترضه مصالح ونمو دول القوة الإقليمية. وفي هذا السياق يأتي تطور العلاقات الأمريكية الإيرانية من التحالف في عهد الشاه، للتنافس والعداء في ظل نظام الحكم الحالي، ومحاولة إيران لتكون القوة الإقليمية بسعيها امتلاك القوة النووية، وهى، إن تمت، تعني تغيراً كلياً في هيكل القوة الدولية والإقليمية لصالح إيران، وهذا هو الهدف الذي سعت الولايات المتحدة إلى تقويضه بشتى الوسائل من عقوبات مالية واقتصادية وعسكرية شاملة، إذاً الهدف هو الحيلولة دون امتلاك القوة النووية، لكنها في الوقت ذاته تمنح إيران تفعيل عناصر القوة الشاملة وخصوصاً القوة المالية التي ستزيد على مئة مليار دولار من الأموال المجمدة. في هذا السياق، نجحت الولايات المتحدة في تحقيق هذا الهدف، لكنها لم تنجح في أن تمنع إيران القوية. وهنا تبرز مسألة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة التي تقع في قلبها إيران، وتبرز قضية الإرهاب الدولي، والدور الذي يمكن أن تسهم فيه إيران. ما يميز العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران تلاقي المصالح الاستراتيجية لكل منهما في نفس المنطقة، فمنطقتا الشرق الأوسط والخليج هما منطقتا مصالح عليا، لذلك تتسم العلاقات في العديد من مظاهرها بالتنافس والقلق من تحرك أي منهما، فإيران تنظر بقلق شديد للتواجد الأمريكي في المنطقة، وبالذات في العراق المتاخمة لحدودها، والولايات المتحدة تنظر بقلق شديد إلى كل التحركات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان، وفي تبنيها ودعمها للجماعات والحركات الإسلامية التي تصنفها الولايات المتحدة بالإرهابية. ولقد زاد هذا القلق بدرجة أكبر، بعد محاولات إيران امتلاك السلاح النووي، بما له من تداعيات خطرة، وقطعها شوطاً بعيداً فيه، ما دفع الولايات المتحدة للتلويح بالخيارات كافة، وخصوصاً الخيارات المالية والعقوبات الاقتصادية التي أتت ثمارها، لما كان لها من تداعيات خطرة على مستقبل النظام السياسى الإيراني الذي تعطيه إيران أولوية على امتلاك السلاح النووي في هذه المرحلة، وهو ما يفسر لنا قبول إيران بالاتفاق النووي، وتقديم بعض التنازلات لرفع العقوبات المالية والاقتصادية التي تعتبرها إيران شريان غذاء لنظامها السياسي والحفاظ عليه. والقلق الأمريكي من تنامي قدرات إيران النووية له ما يبرره، فمن شأن ذلك أن يجعل من إيران قوة إقليمية كبرى لا تقف في وجه طموحاتها الإقليمية أية قوة، وما قد يشكل معه قوة كابحة ومانعة لتمدد النفوذ والمصالح الأمريكية، وهي المصالح الضرورية لديمومة القوة الأمريكية، ولذلك اعتبرت الولايات المتحدة امتلاك إيران للسلاح النووي تهديداً مباشراً لأمنها القومي، فكان لابد من كبح الطموح الإيراني الذي سيدفع بدول المنطقة أيضاً إلى دخول المنافسة، وبالذات في مجال البحوث النووية السلمية، وهو ما سينتج عنه تأثيرات استراتيجية على المنطقة والمصالح الأمريكية، هذا، ورغم أن الولايات المتحدة تمارس سياسات متناقضة ومزدوجة ما بين إسرائيل، التي لم توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وبمنع أي دولة بما فيها إيران من امتلاك السلاح النووي، فإن الولايات المتحدة تؤكد من خلال استراتيجيتها للأمن القومي أنها ملتزمة بإبقاء أخطر أسلحة العالم بعيدة عن أيدى أكثر الأشخاص خطورة في العالم، وهنا تكمن المعضلة في العلاقات ما بعد الاتفاق النووي، فلا يمكن أن تتنازل إيران عن عدائها للولايات المتحدة وإلّا فقد نظامها مرجعيته وشرعيته السياسية، ولذلك نستبعد سيناريو التحالف والصداقة بينهما، ويبقى السيناريو الأكثر احتمالاً هو سيناريو المصالح المشتركة، والاتفاق والاعتراف بمناطق وحدود مصالح كل منهما، وعلى هذا الأساس سيبقى الحكم على مصداقية هذا الاتفاق مرهوناً بقدرة إيران على القيام بتبني سياسات جديدة تقوم على محاربة الإرهاب، وحل مشاكلها مع دول المنطقة ودول الخليج، على أساس من الحوار المتكافئ والمصالح المشتركة وبقدر عقلنة السلوك الإيراني وتفهمه واستيعابه لتحولات القوة في المنطقة بقدر الدخول في مرحلة من الاستقرار، وتبنى صيغ جديدة للعلاقات على المستوى الإقليمي، وهذا ما يسهل حل العديد من الملفات المهددة لاستقرار وأمن المنطقة. drnagish@gmail.com