تساءل علماء التنمية الاقتصادية منذ نشأة هذا العلم عن الأسباب التي يمكن أن تفسر الاختلافات بين الدول في مستويات التنمية الاقتصادية والرفاهية (دخل الفرد ومستويات الفقر)، وكان التعليم ومخرجه الأساسي (رأس المال البشري) من أهم المحددات التي اعتقد علماء التنمية مبكرا بأن لها تأثيراً كبيراً في تفسير هذه الاختلافات بين دول العالم، وذلك لتأثير التعليم المباشر في الانتاجية والكفاءة للقوة العاملة. في السبعينيات الميلادية طور علماء التنمية الاقتصادية مؤشراً أطلقوا عليه مؤشر التنمية البشرية (HDI Index)، وتبنت هيئة الأمم المتحدة هذا المؤشر منذ عام 1990م وصارت تصدر له تقريراً سنوياً. ويشتمل هذه المؤشر على بيانات تشمل؛ متوسط العمر المتوقع، ومستوى الأميه، وعدد سنوات التعليم (المستوى الرابع والثامن من التعليم النظامي)، إضافة إلى مستوى دخل الفرد. وحققت المملكة بالإضافة لدول الخليج إنجازات كبيرة في هذه المؤشرات نظراً للإنفاق المتواصل الذي طال البنية التحتية للتعليم والصحة. وبدأ الباحثون في مجال التنمية الاقتصادية يستخدمون بيانات تقرير الأمم المتحدة في نماذج اقتصادية للوصول إلى إجابة عن ما اذا كانت الاختلافات في مستوى هذا المؤشر يمكن أن تفسر الاختلافات بين الدول في مجال التنمية والرفاهية الاقتصادية، وكانت نتائج هذه الأبحاث صادمة إذ أنها عجزت عن أن تكون مفسرة لأكثر من 25% فقط من الاختلافات بين الدول في مستويات التنمية والرفاهية الاقتصادية ومستويات الدخل المتحققة للدول. هذه النتائج المخيبة لآمال علماء التنمية دفعتهم إلى تطوير مؤشرات بديلة، وكانت الأعمال الرائدة لعالم "اقتصاديات التعليم Eric Hanushek" قد فتحت عين علماء التنمية الاقتصادية الى أمر آخر، وهو أن المهم ليس بقاء الطالب لأطول فترة في العملية التعليمية انما مستوى ما يتحصل عليه من ما سماه "Cognitive Skills أو المهارات الادراكية المعرفية"، وبناء عليه طور مع علماء آخرين مؤشراً بديلاً يعتمد على قياس مهارات الطالب في مجالي الرياضيات والعلوم بوصفهما الباني الحقيقي للمهارات الادراكية والمعرفية. والجميل في هذا المؤشر أنه استطاع في الدراسات العلمية اللاحقة وبقدرة عالية تفسر 75% من الاختلافات بين دول العالم في التنمية والرفاهية ومستويات الدخل أو الفقر المتحققة. طورت بناءً على ما ذكر سابقا منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤشراً واختباراً أطلقت عليه "PISA" يقيس مهارات الطلبة من الجنسين في مادتي الرياضيات والعلوم في السنة الرابعة والثامنة من التعليم النظامي. وقُسمت الاختبارات إلى مستويات تصف التفاوت في الإدراك المعرفي، وصَنفت مستويات نتائج من يأخذ هذه الاختبارات الى أربعة مستويات؛ من يحصل على 400-500 وهؤلاء هم الأعلى إدراكاً معرفياً على مستوى العالم، ثم يليهم من يحصل على نتائج بين 300-400، ثم من يحصل على 200-300، ثم ما دون ال200. الجدير بالذكر هنا، وهو مربط الفرس في المقال، أن من تحصل دولته على درجات بين 200-300 فهذا يعني أن النظام التعليمي فشل في إمداد الملتحقين بأي مهارات ادراكية ومعرفية لأزمة لتحقيق التنمية والرفاهية المعتبرة بالمقاييس العالمية، وأن المنتمين لهذا النظام التعليمي لن يكونوا قادرين على أي شكل من أشكال المنافسة الاقتصادية، بل مآلهم في الغالب الدخول في حلقات الفقر المتحققة من غياب المهارات المؤهلة لسوق العمل، وعليه وبحسب ما جاء في أدبيات التنمية الاقتصادية لا ُتقبل الموارد البشرية لمخرجات هذا التعليم النظامي للدولة للمنافسة في أي سوق عمل عالمي. والسؤال المهم هنا كيف كان أداء الدول العربية والمملكة العربية السعودية بشكل أخص في هذه الاختبارات؟. بدأت غالب الدول العربية بما فيها المملكة المشاركة في هذه الامتحانات منذ عام 2000م، وكانت مشاركة المملكة مقتصرة على اختبارات الرياضيات عام 2000م ثم شاركت في اختبارات 2007م، 2014م في الرياضيات والعلوم، ولكن للأسف كانت نتائج طلبتنا في أعوام القياس الثلاث في غاية السوء ولم نستطع الخروج من مستوى 200-300 نقطة في كل المرات التي شاركنا فيها، وسجلنا في نتائج تصنيف الدول الذي صدر في مايو 2015م الترتيب 66 من بين ال 76 دولة المشاركة، أي ضمن الدول ال10 الأسوأ، وبذلك يكون مستوى تعليم طلابنا الادراكي والمعرفي مماثلا للتعليم في بعض الدول الأفريقية! وكانت ايران والبحرين والأردن ومصر الدول الوحيدة في الشرق الأوسط التي سجلت مستويات بين 300-400 نقطة، لكن ما لم يكن مفاجئاً على الأقل لي هو الإبداع الذي حققه مستوى التعليم والطلبة في الإمارات والتي نالت في أول تقييم شاركت فيه عام 2015م المرتبة 45 كأفضل دولة عربية. هذه الأرقام دون أدنى شك تشير الى أن العائق الأكبر أمام التنمية الاقتصادية في المملكة هو النظام التعليمي المطبق لدينا الذي أصل "ولا زال" المبادئ القائمة على التلقين والحفظ وأهمل أي خطوات اصلاحية جذرية وحاسمة وسريعة للرفع من مستوى طلابنا الإدراكي والمعرفي. من المؤكد أن الدول تتفاوت في الاستجابة للمخاطر التي تواجهها، ولن أنسى في نهاية الثمانينيات الميلادية عندما كنا طلاباً في الولايات المتحدة وأظهرت نتائج اختبارات التعليم العام في أمريكا للرياضيات والعلوم خروجها من قائمة الدول العشر الأفضل على مستوى العالم، وعندها صدر تقرير من مكتب الرئيس الأمريكي بعنوان "The Nation at Risk الأمة في خطر"، وأنا أخشى من ذلك الخطر.