إن منهج التناقض الذي يعيشه هؤلاء بين الأقوال والأفعال وبين التقرير والتطبيق، لهو من أوسع الأبواب وأبرز الأسباب التي يسلكها غلاة الفكر التكفيري لاستقطاب شبابنا، والزج بهم في دائرة العنف ضد أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. نكتب ونتحدث كثيرًا عن الخلاف وآدابه بين فقهاء المسلمين، ونكاد لا ننفض عن المجلس إلا وقد أجمعنا على أن الخلاف الفقهي والتباين الاستنباطي شيءٌ موروث بل وظاهرة صحية من شأنها أن تنمي العقل وتوسع المدارك، وفيه سعة لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن ذلك الموروث الهائل من التراث الإسلامي الذي تزخر به المكتبات الإسلامية والعالمية يعد الجزء الأكبر منه ناتجًا عن اختلاف العقول وتشعب الفهوم، ونقرأ ونقرر كثيرًا ما وقع بين الأئمة الأفذاذ من قصص في ذلك، حتى إن بعضها صار محفوظًا عند بعض الشباب والمشايخ يكاد يذكره في كل مجلس، وكم أتحفونا بقول الشافعي وهو يسترضي أحد مخالفيه "ألا يسعنا أن نختلف ونبقى إخوانا" ولكن الحال كما قيل: تَسعى الشُعوبُ وَنَحنُ في غَفَلاتِنا نَأبى الفِعالَ وَنُكثِرُ الأَقوالا فما تلك التقريرات التي نقررها والقصص التي نتحدث بها إلا مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق واقعا، وبعض مؤصلي تلك التقريرات من فقهائنا ومشايخنا هم من يسعى لمخالفتها ونقضها، فما أن يبرز مخالفٌ لرأي عصبةٍ منهم أو شيخٍ قد حفته بعض جماهير إلا ورشقته سهامهم، وتقصدوه في فتاواهم، وانتقوا في حقه أقذع العبارات ورموه بالجهل، والتمييع، وربما جعلوه (بلعاما) إن لم يستطيعوا تنقص علمه، وربما هُجِر وبُدّع، أو رمي بالضلال، واتهم في دينه وإخلاصه، وكل الأمر أنه خالفهم في مسألة فرعية نشأت عليها آراؤهم، وحجروا الحق فيها، وبنوا دعائم الدين عليها، إذن، أين تلك التقريرات والأقوال والقصص؟ وأين ما قرره العلماء والأئمة والفقهاء من أن الخلاف الفقهي لا يفسد للود قضية؟ إن منهج التناقض الذي يعيشه هؤلاء بين الأقوال والأفعال وبين التقرير والتطبيق، لهو من أوسع الأبواب وأبرز الأسباب التي يسلكها غلاة الفكر التكفيري لاستقطاب شبابنا، والزج بهم في دائرة العنف ضد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وسحب وتعميم الحكم الذي ينزلونه على مخالفهم على من أخذ برأيه أو تابعه أو حتى صلى في مسجده، ويا لعظم جرمه لو زكاه أو أثنى عليه، ومن ثم يتطور الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك. إن من يقررون آداب الخلاف الفقهي قولاً وينكرونه فعلاً هم أوّل المنددين والمستنكرين لما يفعله المتنطعون الغلاة، يشجبون بشدةٍ ما حصل من تفجيرٍ أو اغتيالٍ أو ما فوق ذلك أو دونه، وفي الحقيقة أن مخالفة أفعالهم لتقريراتهم والحيف والتجني على مخالفيهم في آراءٍ يسعها الخلاف المقرر، من أهم أسباب تطرف الشباب وحدة تصرفاتهم، فمنهم استقوا الحدة، ومنهم أشربوا الغلظة، وعلى أقوالهم بنوا رأيهم في المخالف، وما هم في الحقيقة إلا تلامذة مميزون، التحفوا رداء الولاء والبراء، وليس لضال، أو مبتدع إلا الهجر والتسفيه، والجلد، وربما كان القتل الذي نفاخر به في تضحية خالد القسري بالجعد بن درهم! وهي السبب الرئيس لتصنيف كثير من شباب الأمة والإشارة إليهم من قِبَلِ عامة الناس "بأصابع التنقص والازدراء والاتهام" بالتخلف والتشدد. بل إن بعضهم يتهم علماء أعلام بكل أو بعض ما مضى ذكره لا يتوانى ولا يخاف لومة لائم، ولم يقتصر الأمر على علماء معاصرين، بل تجاوزه إلى علماء قد ضربت أطناب ذكرهم في الأولين، ورفعت أعلام فقههم في الآخرين، وكم قابلت وسمعت من أناس قدحا في ابن حزم، وفي النووي، وابن حجر، وأمثال هؤلاء الجهابذة العظام، وليس معه مستند في قدحه سوى قول شيخه، والزعم بعلمه في الجرح والتعديل. ولعلك أخي القارئ تجد عند هؤلاء منهجًا يفرقون به عملياً بين مسائل وأخرى كلها تندرج في إطارٍ واحد، والتفريق بينها مجرد هوى وتحكم بغير مسوغ تأصيلي، فهم لا يغضون الطرف ولا يتسامحون إذا خالفتهم في مسألة في الوضوء أو الصلاة أو الزكاة أو الحج، أو في أمر من أمور العبادات التي يكرسون لها جل أوقاتهم في البحث والتدقيق والتحقيق، ويعظم الأمر عندهم تمامًا إذا خالفتهم في مسائل يجمعون بأقوالهم وتقريراتهم وشروحاتهم أنها داخلة في إطار الخلاف السائغ، لكن أفعالهم تجذبهم إلى معاداة من يتبناها ويقول بها ويشنعون على من اتبع الأئمة فيها اقتناعا منه بصوابها وموافقتها للدليل، وقد تعود تلك المعاداة إلى نزعة العرق العصبي للأعراف والتقاليد التي جاء الإسلام للقضاء على نعرة التعصب لها وتقديمها على ما يصل إليه العقل من استنباطات من أحكام من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة. وليس الأمر في هذا مقتصرًا على مسألة بعينها بل الأمثلة قد لا تُستوعب لكثرتها وإنما المقصود هو مناقشة هذا الفكر الذي لا يحكمه تأصيل ولا يتقيد بضابط. فإذا تأسى متأسٍ بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو ييسر على من سأله "افعل ولا حرج" معتمدًا في ذلك على ما فهمه من دليلٍ متبعا فيه إماما بل أئمةً معتبرين شهروا عليه ألسنة حداد وأنزلوا عليه قاعدتهم التي لا تسلم من اعتراض "من تتبع رخص العلماء تزندق". مع أن ذاك الرأي وذاك الاختيار قد يكون قولاً للجمهور، أو اختيارا لأحد كبار الأئمة المتبعين، لكن هكذا يفعل الهوى لا يقبل صاحبه إلا ما أملاه عليه، وكذلك لم ينحصر قذعهم وقدحم على من خالفهم من المشايخ، بل ربما قاربوا حدّ اتهام مسلمةٍ لأنها أخذت برأي ليس عليه رأيهم، وليس هو اختيارهم وترجيحهم، فاتهموها في شرفها، وعفتها، ونال نصيب من ذلك ولي أمرها، فربما كان في نظرهم ديوثا، معدوم الغيرة، لا يحرص على عفاف أسرته. وعند هؤلاء، وهم في نظري من يبذر نبتة التشدد، ويغذيها ويسقيها، حتى وإن كانوا يفعلون ذلك من حيث لا يشعرون، لا بد من تضييق دائرة المباح، قدر المستطاع، فأحاطوا الشريعة بسياج حديدي من التضييق والتحريم، إن لم يجدوا نصا فما أسرع ما يستعملون باب سد الذرائع؛ ففي نظرهم أن المباح لا بد أن يحمى ببعض الآراء المتشددة كي لا يقع المسلم العامي فيأخذ بآراء "فقهاء السوء" بزعمهم! وهكذا يتدرج بهم الشيطان في الحكم على المباح بالتحريم، وفي تحريم المكروه وفي وضع قواعد وأصول هي إلى التقاليد أقرب منها إلى الشرع والدين، وبذلك يتوقف نهر الإبداع الفكري في إيجاد الأحكام الموافقة للكتاب والسنة والمناسبة لكل نازلة وحادثة، يتوقف عند آراءٍ انسجمت مع نفوسٍ لا تقبل الانفتاح، وترفض قبول آراء الآخرين، بحجة أن الحق معهم، يدور حيث داروا! وسنظل ندور حول ضوابط أنشأناها واخترعناها لمقارعة رأي أو رد فتوى قائلين "لا إنكار في مسائل الخلاف" ومرتكبين في حق المخالف ما لا يتجرأ فاسق على فعله، فهل نستطيع التغلب على هذا الفكر وهل سيجتمع المختلفون يومًا ما على المحبة والوئام "تحت سقف الخلاف"؟