للمكان سلطته على ذويه، فقد ذاب العربي بين ترف وأعراف وعادات وتقاليد، وحرير وطيلسان امتزج عبيرها بعطور ذابت بين أحجارها وتعطرت به مبانيها. يقول ويلفريد وتسينجر: "سافرت عبر شعاب أكراكورام وهندوس، وكوش في جبال كردستان، ومستنقعات العراق، مدفوعاً دائما إلى الأمكنة البعيدة، وعشت بين قبائل عجيبة، ولكن ما هزني مكان من هذه الأمكنة ولا راعني منظر من هذه المناظر أو أثر فيَّ شعب بقعة من البقاع التي زرتها، كما فعلت صحراء شبه الجزيرة العربية". لرمال الصحراء سحرها ولتكويناتها أجمل لوحة ربانية رسمها الخالق عز وجل، "كانت طبيعة الأرض هذه تبدو مثل السجادة تحت أقدام جمالنا. وكانت ذرات الرمال نظيفة ومصقولة، وتبدو تحت أشعة الشمس مثل حبات الألماس الصغيرة.. ولم تكن هذه الطبيعة مهملة لكل عابر سبيل، بل تحكمها تلك الأعراف والتقاليد وسلطة غير مبرمة تتوارثها الأجيال، بوجدان وعقيدة قلما توفرت في ربوع أخرى في العالم أجمع... الرجال نظروا إلى الصحراء على أنها أرض جرداء قاحلة، أو تحمل بحرية كل ما تختاره، ولكن الحقيقة فإن كل تلة وكل واد فيها له أو لها رجل يعتبر مختصا ومضطلعا بها، ويمكنه أن يؤكد بسرعة حق عشيرته وقبيلته فيها ضد أي اعتداء أو عدوان. وحتى الآبار أو الأشجار يوجد لها أسيادها، الذين يسمحون للناس أن يوقدوا من أشجارها ويشربوا من آبارها بحرية، طالما تطلبت حاجتهم لذلك، ولكنهم في نفس الوقت (هؤلاء الأسياد) يدققون بشكل مستمر في كل واحد يحاول ملكيتها لحسابه، أو أن يستغلها، أو أن يحوِّل إنتاجها لمصلحته، أو منفعته الخاصة من بين الآخرين.. والنتائج المنطقية هي في تقلص هذه الرخصة ليقتصر امتيازها على رجال الصحراء، وقسوتهم وصلابتهم بالنسبة للغرباء غير المزودين بالتعريف أو الضمان، حيث الأمن المشترك يكمن في المسؤولية المشتركة للأقارب". وقد فسر الباحثون هذا الذود على أنه نوع من العصبية، فانتشر هذا المفهوم. إن لديهم خاصية الذود عن المكان، لأن خاصية الانتماء متجذرة فيهم، "الانتماء للمكان الذي قد يحوي بعض المستجيرين والوافدين فأصبحوا بمرور الوقت من لحمة المكان والقبيلة عن طريق المصاهرة والسرارة وما إلى ذلك، فالتفرعات القبلية ليست تقسيمات عائلية جينولوجية، وإنما تقسيمات تحدد العلاقات السياسية والقانونية والتعاونية بين مختلف مكونات القبيلة؛ العلاقات القرابية المفترضة ما هي إلا غطاء أيديولوجي يبرر ويعزز هذا الشكل التنظيمي الذي يندمج من ناحية الوظيفة إلى هيكل التشكيلات والكتائب العسكرية". وبالتالي تكون الحمية على الأرض التي يعتبرها الفرد شرفه وعرضه، والذود عن الحِمَى أصبح نوعا من الشرف. وعليه لم يكن تعصبا؛ فالتعصب هو التحوصل داخل خلية تنبذ الغرباء أو التعصب لدين أو نسب، وهذا غير وارد كما ذكر الرحالة، بالرغم من أنهم يعتنقون دينا مغايرا لدينهم. ولذلك فهناك فرق دقيق بين قوة الانتماء للمكان الذي ذابت فيه الشخصية، وبين نبذ كل غير ذي صلة بأفكارهم ومعتقداتهم، وجنسهم. فهم لم يكونوا عدوانيين أو متعصبين ضد أي غريب كما أنهم قوم يركنون إلى المؤانسة والجماعة، ومن هنا ندرك الفرق بين الدفاع، والكراهية، ونبذ الآخر الذي لا يحمل سماتهم الفكرية والعقائدية، وهذا الفرق الدقيق يكمن في عمد التفريق بين العصبة والعصبية، فالعصبة هي ترابط الجماعة على الخير والشر وعلى الحب والوئام أو على من انتهك قوانينهم ودساتيرهم. أما العصبية فهي نبذ الآخر الذي لا ينتمي إليهم وذلك غير وارد فيما استقرأناه في بحثنا (عبقرية الإنسان). وقد وردت كلمة عصبة في القرآن الكريم في سورة يوسف: (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون). وقد تكون العصبية فردية، كل يتعصب لرأيه ولأفكاره في أي مكان في العالم، بينما نجد أنه لا مكان للفردية بينهم. فيقول ووتسينجر في كتابه (فوق الرمال العربية) الذي دونه في مطلع القرن التاسع عشر: "إني دائم الحنين إلى الوحدة، وذلك هو الشيء الوحيد الذي لا يشعر به البدوي طيلة حياته، فقد سألني الإنجليز كثيرا هل شعرت بالوحدة في الصحراء.. إنني لم أشعر يوما بالوحدة وأنا بين الأعراب، لقد زرت مدنا عربية لا يعرفني فيها أحد، ودخلت أسواق العرب، وكنت إذا حييت بائعاً دعاني إلى الجلوس معه وأرسل في طلب الشاي وانضم إلينا أناس كثيرون، يسألونني عن حال مقصدي ولا يكتفون بذلك بل توجه إليَّ الدعوات من مختلف الأفراد للغداء والعشاء! ترى كيف يشعر مثل هذا العربي لو أنه زار إنجلترا لأول مرة؟ إني لأرثي له فسيجد فارقا بين عادات وعادات"! وحينما يقول ابن خلدون: "لا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبة وأهل نسب، لأنه بذلك تشتد شوكتهم ويُخشى جانبهم.. وتعظم رهبة العدو". فطبيعة الحال وكما نرصده إلى أي مدى تبلغ سلطة المكان، نجد أن ذلك ما فرضه عليها، إذ إن وحشة الصحراء وشدة اتساعها، ووعورة أراضيها تترك في النفس شيئا من الترقب والحذر، وهذا شيء بديهي! ولذا تتكون المجموعات ليس بغرض العنصرية أو العصبية، وإنما للذود عن حياضهم وعن شرفهم ضد أي اعتداء؛ ولذلك نجد ابن خلدون يرد ذلك إلى ضد الأعداء وتخويفهم للعدو، فقال: (تعظم رهبة العدو)، فالمسألة هنا تتعلق بالدفاع وليست بالتقسيم النفسي بين مجموعات الأفراد والجماعات، والدفاع عن الأنساب والأصهار، فالعرب هم من يشتهرون بقرى الضيف الغريب الذي لا يعرفونه، ويأنسون بالأغراب والأجانب.