الشاعر الجوال، الشاعر المشّاء، الشاعر الرصيفي، شاعر الأسى الفلسطيني، شاعر الصباحات والظهيرة، شاعر الحقائب، كل هذه الصفات تنطبق على محمد القيسي صاحب الحداد يليق بحيفا واشتعالات عبد الله وأيامه والعديد من المجموعات الشعرية التي طبعته بشخصية أدبية هي من نسيج ذاته، ومن حبر قلمه. رحل محمد القيسي قبل سنوات فجأة وهو العاشق الكبير للشعر وللحياة، محب لأصدقائه، ومحب للقصيدة الجميلة، ومحب للموسيقى المولودة من الكلمات. أثر القيسي في عدد من الشعراء الفلسطينيين والعرب. تنقل بين الكويت وبيروت والدمام ولندن وعمان وتونس، وفي كل مدينة كانت صورة فلسطين تتكثف أكثر وأكثر في قلب شاعر التجوال اليومي، والضحى المعبأ بعطر الياسمين. تعرفت إليه في العام 1981 في العاصمة الأردنية عمّان، وكانت مدينة الشعر والليل في تلك الأيام العذبة، وكان القيسي يطلق شعره وشَعره في الريح. من الظهيرة وحتى الساعات الأولى من صباحات تلك الأيام كانت مجموعة من الشعراء الأصدقاء تؤثث الليل بالضحك والشعر والمباهج الصغيرة التي تكمل الكتابة، وتعطيها معنى الرفاقية الإبداعية من دون استعلاء أو أستذة أو ما يسمى الأبوية الشعرية. كانت عمّان في تلك الأيام مدينة الشعر الذي يولد من تلك الرفاقية الأدبية: زهير أبو شايب، إبراهيم أبو هشهش، يوسف عبد العزيز، عمر شبانة، طاهر رياض، وفخري صالح. كانت تلك المجموعة الذهبية منشغلة بقصيدة التفعيلة، وبالقصائد المشتركة والجدل الأسبوعي في الملاحق الثقافية الأردنية التي تصدر حتى اليوم في يوم واحد من الأسبوع هو الجمعة. لا تمر جمعة إلا ونقرأ قصيدة للقيسي الذي عرف لدى بعض النقاد بشاعر العذابات الفلسطينية، لكن من دون شعارات سياسية رنانة، ومن دون ارتماء في حضن حزب، أو الارتماء على صدر طائفة إيديولوجية أو مذهبية سياسية مقيتة. كان محمد القيسي يكتب الشعر في أي مكان يحلّ فيه. كان يشحن الكلمات البسيطة بطاقة حيوية من الصور والكنايات والمجازات بحيث يبدو شعره غناء بلورياً صافياً صفاء عين الديك. هذه الحيوية الشعرية القيسية امتد أثرها إلى عدد من شعراء ثمانينات القرن الماضي، وبالفعل كان هناك جيل شعري يتوسطه عمود فقري هو القيسي، الذي، مرة أخرى، لم يكن يمارس أي بطريركية أدبية، وفقط كانت جاذبيته الشعرية هي حقل مغناطيسه اللاقط للجماليات المطرزة بالحب والشفافية والحنان. نتذكر محمد القيسي في وقت لا يتذكر فيه أحد أحداً في زمن تلاشي الأرواح المضيئة، ليس على مستوى الكتابة فقط، بل تلاشت هذه الأرواح في الصداقة والحياة وقرابة الشعر. كان يقول الشارع أجمل من سقف، ويقول: أيها الأصدقاء القدامى سلاماً، سلاماً، فأين هم هؤلاء الأصدقاء؟ yosflooz@gmail.com