بينما كانت أنظار العالم مسلّطة على التطورات الهائلة في المفاوضات النووية الإيرانية والحرب في اليمن واشتباكات تركيا الجديدة مع كل من تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني، حدثت عدّة تطورات مهمة على الساحة العراقية. وإذا اجتمعت هذه التطورات معاً، فبإمكانها أن تغير وجه السياسة العراقية وأن تؤثر - سواء سلباً أو إيجاباً - في الأولوية التي يمنحها المجتمع الدولي لمكافحة ما يُعرف بتنظيم داعش. ووفقا لتقرير أعده جيمس جيفري الباحث في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق في العراق وتركيا فإن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يواجه في بغداد رأياً عاماً أشدّ غضباً من أي وقت مضى، يؤيده المرجع الديني الشيعي الأكثر نفوذاً في البلاد، آية الله العظمى علي السيستاني، حيث يطالبون جميعاً بالقيام بإصلاحات في مجال توفير الخدمات ومكافحة الفساد. وفي الوقت نفسه وعلى بعد بضع مئات الأميال شمالاً، يواجه رئيس "إقليم كردستان" مسعود بارزاني تحديه الأكبر منذ تولّيه رئاسة "حكومة إقليم كردستان" قبل أكثر من عشرة أعوام. ويعالج كلا الزعيمين مشاكلهما الداخلية بعزم كبير، بحسب جيفري، إلا أن أيّا منهما لم يصبح بعد بمنأى عن الخطر. وقد استجاب العبادي المتحفظ أحياناً إلى آخر احتجاجات الجمهور وعلماء الدين بخطوات جريئة تشير إلى تصميمه الجديد على تولي زمام الأمور. ويشمل ذلك ضخ حياة جديدة في مؤسسات وسياسات مكافحة الفساد والدعوة إلى إلغاء بعض المناصب الحكومية التي تبدو دخيلةً: ومنها عدة نواب لرئيس الوزراء ولرئيس الجمهورية في العراق (الأمر الذي من شأنه أن يقيل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي والرئيس السابق للبرلمان أسامة النجيفي من منصبيهما، علماً أنّهما اثنان من الشخصيات القوية وواسعة الحيلة التي غالباً ما تُعرقل الأمور). كما اقترح العبادي أيضاً إنهاء نظام المحاصصة في المناصب الحكومية (الذي سمح حتى الآن للأحزاب والسياسيين الأفراد بإدامة المحسوبية المتفشية "في الحكومة") وإلغاء جيوش الحراس خاصة تلك التي تحيط بكل من الشخصيات الفاعلة الرئيسية. وستتطلب بعض هذه الخطوات اتخاذ إجراءات برلمانية أو حتى إدخال بعض التعديلات الدستورية، وكلاهما يصعب جداً توفيرهما في العراق. ولكن، مع تأييد السيستاني الشديد لبرنامج العبادي، ومع إبداء المالكي والنجيفي و"حكومة إقليم كردستان" الدعم له على الأقل ظاهرياً، قد يتمكن رئيس الوزراء من تحقيق نصر جزئي على الأقل. بيد أن ذلك لن يضع حداً للفساد أو لعدم كفاءة الحكومة، بالطبع، إلاّ أنّه قد يخفضهما إلى حدٍّ كبير. ومن شأن هذا النجاح، حتى ولو كان جزئياً أن يقوّي قبضة العبادي ضدّ أقطاب الأحزاب الذين يهيمنون على البرلمان (فالمالكي الذي لا يزال منزعجاً من إطاحة العبادي له من منصبه كرئيس للوزراء، يترأس "حزب الدعوة الإسلامية" الذي ينتمي إليه العبادي نفسه). ولكن، إذا أعاقت السلطة التشريعية عمل العبادي، فقد يلومه كلا من الرأي العام والسيستاني على تقاعس الحكومة. وبالتالي، فبينما تتيح الأزمة الحالية أمام رئيس الوزراء الفرصة المثلى التي تسنت له حتى الآن ليظهر كزعيم يتمتع بشعبية ونفوذ، إلاّ إنّ الضعف السياسي المتأصل فيه يجعل من موقفه أكثر تزعزعاً من ذلك الذي يواجهه زميله في الشمال، الرئيس بارزاني. وتنبع مشاكل بارزاني، برأي جيفري السفير السابق في بغداد، من غياب دستور شرعي للإقليم الكردي. فحكومة إقليم كردستان تخضع للدستور الوطني العراقي، إلاّ أنّ هذا الأخير سمح باستمرار العمل بالكثير من آليات الحكم الكردية التي كانت سارية قبل عام 2005 بحكم الأمر الواقع. ونتيجةً لذلك، فإنّ البيئة السياسية السائدة في هذا الإقليم الذاتي الحكم، تتكون من ثلاثة مستويات: جمهورية رئاسية برئاسة بارزاني (وهو قائد لقوات البيشمركة يشكل أسطورةً ورمزاً وكان والده بطلاً قومياً كردياً)؛ والفصيلان الكرديان التقليديان - "الحزب الديمقراطي الكردستاني" برئاسة بارزاني و"الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، ولكلّ منهما قوات البيشمركة الخاصة به ويتحكم في المعاملات الحكومية البيروقراطية في معقله سواء في أربيل أو في السليمانية على التوالي، فضلاً عن تقسيم فعلي للمناصب السهلة في كل من المنطقتين في الإقليم؛ وبرلمان منتخب ديمقراطي يحاول أن يفرض إرادته. والسبب المباشر للأزمة الحالية في "حكومة إقليم كردستان" هي أنّه من المفترض أن يتنحى بارزاني فعلياً من منصبه في غضون أسبوعين نظراً لانتهاء فترة التمديد لولايته الرئاسية الثانية التي طالت عامين والتي يُفترض أن تكون الأخيرة، وهو اتفاق كان قد توصّل إليه "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني". وبحلول هذا الوقت، عادةً ما يكون قد تمّ التوصل إلى صفقة أخرى وراء الكواليس لحل هذا الحدث المؤسف. فبارزاني يريد البقاء في منصبه، ويتمتع شخصياً بشعبية، كما أن عشيرته ممثلة تمثيلاً جيداً في المناصب الإقليمية وتتبوّأ بعض المناصب في بغداد. والأهم من ذلك، أنّ أغلبية أبناء دائرته الانتخابية يدركون أنّه ليس هناك شخص آخر قادرا على قيادة "حكومة إقليم كردستان" وإيصالها إلى برّ الأمان من التهديدات الوجودية التي يفرضها عليها تنظيم "داعش"، وتدفق اللاجئين إليها بأعداد كبيرة، والانهيار المالي الذي تعانيه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لِمَ لم يتم التوصّل إلى صفقة هذه المرّة؟ يقع اللوم على الضعف التدريجي الذي يعانيه "الاتحاد الوطني الكردستاني" والنابع بدوره من المشاكل الصحية الكثيرة التي يعانيها رئيس "الاتحاد" جلال الطالباني منذ عام 2012، وسوء نتائج الانتخابات، وانقسام الجناح الإصلاحي، "حزب غوران"، قبل نصف عقد من الزمن. ولم تترك هذه التطورات كلها أمام "الحزب الديمقراطي الكردستاني" برئاسة بارزاني شريكاً في المفاوضات اللازمة التي تدور وراء الكواليس لإعادة تمديد فترة ولايته. وبدلاً من ذلك، أصرّ البرلمان - الذي يهيمن عليه "حزب غوران" وعدة أحزاب إسلامية و"الاتحاد الوطني الكردستاني" الضعيف - على حقه بأن يقرر من سيكون الرئيس المقبل. وقد رفض بارزاني هذا الطلب ودعا إلى إجراء انتخابات رئاسية في العشرين من آب(أغسطس)، متجاوزاً بذلك البرلمان. وعلى الرغم من أنّ الضغط الذي يمارسه بارزاني لإجراء الانتخابات يتمتع بشرعية قانونية أقل من حملة العبادي لمكافحة الفساد، إلاّ أنّ بارزاني يتحلى حالياً بسلطة عسكرية ومالية وشعبية أكبر بكثير من تلك التي يتمتع بها رئيس الوزراء. وبالتالي فمن الأقل ترجيحاً بكثير أن يتعثر في معركته البرلمانية من العبادي - مع أنّه في هذه الفترة التي يطغى عليها طابع عدم اليقين، لا يمكن حتى لبارزاني أن يكون متأكداً. ويمكن لكلا الزعيمين أن يدعما بعضهما البعض من حيث المبدأ، لكنّ مثل هذا التعاون قد تَعَرقل بفعل المشاحنات المستمرة بين بغداد وأربيل حول قضايا عسكرية وإقليمية ونفطية. وتكمن المصلحة الرئيسية للولايات المتحدة في خضم هذه الأزمة في بقاء العبادي في السلطة، وكسبه ثمرة جهود الإصلاح التي يقودها، إذا كان ذلك ممكناً. كما تعتمد واشنطن أيضاً على استتباب الاستقرار في كردستان، وهذا يعني مساعدة بارزاني على إيجاد طريقة للبقاء في السلطة من دون خنق الديمقراطية البرلمانية. ومن المفارقات أنّ كلا تركيا وإيران تنظران إلى الأمور بالطريقة نفسها وتمارسان الضغط على القادة السياسيين في حكومة إقليم كردستان للاستمرار في تأييد بارزاني. وتعمل الولايات المتحدة بطريقة أو بأخرى، كما يختم سفير واشنطن سابقا في بغداد، على إيجاد الحلول لكلا هذين الحليفين العراقيين، نظراً إلى أنّ نضالها ضد تنظيم داعش سيتخذ منحى سيئاً إذا غاب الاستقرار في بغداد وأربيل. ومع ذلك، وحتى في أفضل الحالات، فإنّ تواتر الأزمات السياسية في الآونة الأخيرة سوف يشتت الانتباه - على الأقل بشكل مؤقت - عن حملة مكافحة تنظيم داعش - الأمر الذي يدل مرة أخرى على أنّ الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما لا تمنح - بجهلٍ منها - هدف "تدمير" تنظيم داعش الأولوية القصوى. وفي منطقة الشرق الأوسط الديناميكية وغير المستقرة وغير المؤكدة، قد لا يبقى حلفاء أمريكا الحاليون بجانبها غداً، غير أنّ تنظيم "داعش" سيبقى حتماً إذا لم يتغيّر الجدول الزمني الذي تتبعه الإدارة الأمريكية.