أميركا تعود إلى مصر بعد فترة من توتر العلاقات بينهما وتعرضها لكثير من عوامل الشد والجذب التي أعقبت ثورة 30 يونيو، وجرى خلالها تعليق جزء من المساعدات العسكرية وبعض صفقات السلاح، فضلاً عن مناورات النجم الساطع المشتركة التي كان لها صفة دورية، وهو ما تمت مراجعته تدريجياً فيما عدا الشق الأخير. إلا أن العودة هذه المرة تمثلت في استئناف الحوار الاستراتيجي الذي توقف ما يقرب من الـ6 سنوات، وهو ما شهدته القاهرة أخيراً مع زيارة جون كيري، وزير الخارجية الأميركي. والحوار يعني أن ثمة تحركاً إيجابياً من الجانبين لتجاوز الأزمات المتكررة بينهما، ولكنه يعني -وربما بالدرجة نفسها- أن هناك خلافات شبه دائمة في المواقف ووجهات النظر لا تجد سبيلاً لحسمها. وليس الهدف هنا استعراض تطور تلك العلاقات وأهميتها بين دولة عظمى لها سياساتها التدخلية على مستوى العالم ودولة إقليمية تتمتع بأهمية محورية ومؤثرة في محيطها، ولكن التوقف عند طبيعتها باعتبارها من أكثر العلاقات إثارة للجدل، برغم طول مدتها الزمنية منذ استئنافها بعد حرب 1973، ورسوخها بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية 1979. إذ يصعب تصنيفها أو وضعها في خانة معروفة، فهي الأكثر جمعاً للمتناقضات (صداقة، عداوة، تحالف، تباعد، هدوء، توتر، لغة دبلوماسية، وأخرى عنيفة، وهكذا)، بل مع وصفها بـالاستراتيجية، فإن النظرة العامة لأميركا ما زالت تراوح تقريباً مكانها منذ مرحلة القطيعة معها التي سادت في الخمسينيات والستينيات، أي منذ الحقبة الناصرية. كما جسدها العمل السينمائي ناصر 1956، إنها اللحظة التاريخية التي لم تنقض مهما قيل غير ذلك، ونظرة سريعة على الإعلام تكفي للتدليل على ذلك وأكثر، فهي الصديق الظاهري والعدو الخفى في الوقت نفسه، وفى ذلك إجابة عن: لماذا الحاجة دائما إلى حوار استراتيجي معها دون باقي الدول. ذهبت معظم التحليلات إلى أن استعادة الحوار تعني في ذاتها إسقاط أميركا ورقة الإخوان التي تسببت في تأزم علاقاتها بالنظام الجديد في مصر، وذلك على خلفية إقرار كيري بضلوعهم بـبعض أعمال العنف، وأن الاهتمام الآن منصرف إلى تنمية العلاقات الثنائية، خاصة في مجال الاستثمار والشؤون الاقتصادية. وقد يكون ذلك جانباً من الصورة، ولكن المؤكد أن الأمر يحتاج إلى قراءة أشمل. فالمعروف أن الجلسة المخصصة لممثلي القطاع الخاص قد أُلغيت، ولم تكن هناك إشارة إلى مشاريع تنموية محددة مع الجانب الحكومي أيضاً، ما يعني أن الحوار يتعلق في الأساس بالجوانب السياسية. أما بالنسبة إلى النقطة الأولى الخاصة بالإخوان -وهي الأهم- فقد توقفت تلك التحليلات عند منتصف عبارته، حيث أكمل الجملة بقوله: وهناك أيضاً من ينتهج السلمية ويسعى للمشاركة السياسية، ولا بد من إحداث توازن في طريقة التعامل مع الجانبين، لأن حرمان الناس من حقوقهم السياسية يزيد من فرص التطرف والإرهاب، وهو ما يعني ضمنياً أن الملف لم يُغلق تماماً، فأميركا حتى هذه اللحظة لم تُدرج جماعة الإخوان على قوائم الإرهاب بعكس مصر. وبرغم أن كيري قد أتى بالوجه الواقعي لبلاده، فإنه لم يُغفل تماماً وجهها الآخر المثالي النزعة، باعتبارها راعية الحريات في العالم، (وهو المذهب الذي أُسس منذ إدارة وودرو ويلسون إبان الحرب العالمية الأولى)، فتحدث عن ضرورة إجراء انتخابات برلمانية نزيهة ومفتوحة للجميع. وكذلك عن الحاجة إلى الإسراع في إجراءات التقاضي، ومعروف أن هذا الملف تحديداً المتعلق بالشؤون الداخلية كان وما يزال من نقاط الخلاف الجوهرية بين القاهرة وواشنطن حتى في عهد مبارك، برغم كل ما يتردد عن الطبيعة الخاصة للعلاقات المصرية الأميركية واستقرارها في هذه المرحلة. فالاستقرار لم يكن لانتفاء الخلافات، ولكن لأن الدور المصري كان محدداً في الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قبل أن تتجمد هذه العملية وتنقلب أوضاع الإقليم في زمن الثورات العربية، وهو ما كان يغطي نسبياً على تلك الخلافات المزمنة. ومن هنا، فالأرجح أن تحرك أميركا نحو مصر يرتبط أكثر بإعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية ومواجهة الإرهاب المتمثل هذه المرة في داعش، وعلاقاته الممتدة مع تنظيم أنصار بيت المقدس في سيناء، وهو أمر تضعه الولايات المتحدة ضمن أولوياتها، لكونه يتعلق بالحدود مع إسرائيل. ولذا فإن الإفراج عن صفقات السلاح وإرجاع المساعدات العسكرية لمصر كما كانت، يعدان جزءاً لا يتجزأ من هذا التصور، لأن تلك المساعدات قُررت في الأساس من أجل الحفاظ على معاهدة السلام وتأمين الحدود. وهذا يفسر الحماس الأميركي لمواجهة الإرهاب الآتي من سيناء، بعكس موقفها من التدخل المصري لضرب التنظيم نفسه في ليبيا لتأمين حدودها الغربية. لذا، فلا يبدو أن هناك تحولات جذرية في الموقف الأميركي عموماً، وإنما هي مرحلة صياغة جديدة لمفهوم الأمن الإقليمي، تسعى من خلاله للتعاون مع الدول الإقليمية القادرة على مثل هذه المواجهة، ولكن تحت مظلتها، فقبل توقف كيري في مصر، كان الضغط على تركيا من أجل وقف دعمها غير المباشر لداعش الذي قصدت منه إضعاف نظام بشار في سوريا. وبالفعل استخدمت القوات الأميركية قاعدة إنجرليك التركية في قصفها الجوي للتنظيم، وبعدها مباشرة - وللهدف نفسه- توجه وزير الخارجية الأميركي إلى الدوحة في لقاء غير مسبوق، جمع بينه وبين نظرائه في روسيا والسعودية، وهي خطوات تأتي بعدما انتهت واشنطن من عقد صفقتها المعروفة مع طهران بشأن ملفها النووي أي بعدما احتوت الجانب الشيعي. باختصار، إن هذا التصور الأميركي لاستراتيجية مواجهة التطرف العنيف للتنظيمات الإرهابية السنية يقوم على الجمع بين كل من السعودية ومصر والأردن وتركيا وقطر، برغم الخلافات المعروفة بين أغلبها. فكيف سيكون ذلك؟ ووفق أي شروط؟ وما موقع الإخوان الذين تربطهم علاقات وثيقة بقطر وتركيا في مثل هذا التصور؟ بل كيف سيتم التوفيق بين مختلف تلك الأطراف في باقي الملفات من سوريا وليبيا إلى اليمن؟ ليست هناك إجابة واضحة، والأرجح لن تكون لفترة أخرى مقبلة.