الكتابة فعل إنساني دائماً. ربما ينحاز بعض المبدعين إلى التراث الثقافي إما يصارعونه وإما يجرفهم، فلا يكتبون أنفسهم. رنا التونسي الشاعرة المصرية انحازت إلى الكتابة بوصفها إرادة وبساطة في آن واحد. لم تجعل الكتابة حالة آلية ودافعاً مفتعلاً. راكمت التونسي مجاميع شعرية أنجزت أولاها: «ذلك البيت الذي تنبعث منه الموسيقى»، (الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2001)، و»وردة للأيام الأخيرة»(دار ميريت، القاهرة ، 2002)، و»وطن اسمه الرغبة» (دار ميريت، 2005)، و»تاريخ قصير» (دار النهضة العربية، بيروت ، 2006)، و»قبلات» (دار ميريت، القاهرة، 2010)، و»السعادة» (منشورات الجمل، بيروت ، 2012)، ومختارات بعنوان «عندما لا أكون في الهواء» (منشورات الجمل، بيروت ، 2014)، آخرها «كتاب الألعاب» (شرقيات للنشر، القاهرة، 2015). هذا حوار معها حول الكتابة والأمومة والطموح. هناك غرباء كثيرون في العالم يشبهونني وأريد أن أقف بجانبهم.. أن أفعل الخير * "أحياناً أتمنى أن تخرج يدك من الأوراق من جملة تراقبناوتساعدني أن أعبر إليك " ثمة رهافة وإتقان في المعجم اللغوي والتعبير النحوي. ما هي مصادرك الثقافية؟ - كل ما له علاقة بحياتي من قراءة وبحث ودراسة وسينما وموسيقى وتجارب وخبرات حياتية وسفر ومشاهد تمر يومياً، كل هذا يمكن اعتباره مصادر ثقافية بشكل ما. * "ثوبي الممزق من الريح قبلة في الهواء لا تأتي ولا ترحل" مقومات الكتابة الإبداعية – في شعرك على الأخص-: المجاز والكثافة، مع توظيف لتقنيات سردية وفوتوغرافية ومونتاج سينمائي وصياغات شذراتية. كيف تتمكنين من جعل الكتابة عفوية بدهاء مع تعدد التقنيات؟ - أترك نفسي للكتابة وأستمتع بها. أحاول أن أجعلها طيلة الوقت تمريناً أو هواية. كلما استمتعت بها وتمرنت أشعر أني أقرب إلى قصائدي. * أصبحت أماً علي أن أفهم أن الصوت الذي يصرخ من الغرفة المقابلة ليس راديو صغيراً يمكنني أن أغادره." "يلعب ابني بطائره الصغير فوق صدري وأفكر بك وفي الحلول غير المنطقية التي يمكن أن تجمعنا سوياً" الأمومة والأبوة. تعلمنا المسؤولية وقبول الآخر والإيثار . أنت ماذا أعطيت الأمومة؟ - أعطي الأمومة حياتي، كما أعطتني هي أيضاً حياة لم أتوقعها أو أتخيلها. أشعر أن الأمومة نعمة وأفعل كل ما في وسعي لأستحقها. أحاول أن أربي ابني ليكون طفلا سعيداً بأن أقضي وقتا كافيا معه وأستمع إلى حاجاته وأشعره بالأمان والثقة والحب. لا يهمني إذا أصبح الأول أو الأغنى أو الأذكى. لا أربي ابني ليطمح أن يكون أياً من هذه الصيغ والقوالب. أربيه أن يكون كما يريد أن يكون وأن يضحك قدر المستطاع. أربيه أن يظل آدمياً. مازال صغيراً لكني أطمح أن أعلمه كل هذه الأشياء. * "طفولتي بلا صور كأني لم أكن " كيف يمكن للإبداع – أدباً أو فناً – أن يكون ذاكرة ثقافية؟ الذاكرة الثقافية نجدها في الأعمال الجميلة التي تؤثر بنا مثل نص روائي أو مقطوعة موسيقية جميلة وهكذا. هل هناك وصفة لهذه الأعمال؟ - لا أعرف. أعرف فقط أنها حقيقية أو نحسبها كذلك وأنها تمس كل واحد منا ربما بشكل بعيد عن الآخر. ذاكرتي أنا الثقافية مثلا مليئة بأشعار أحمد فؤاد نجم وصوت نعمان لحلو وهو يصدح بالكلاسكيات في بيتنا وقراءات بدت كأنها اكتشافات. عندما أقرأ عملاً جيداً أشعر بنشوة كأنني أمشي على الأرض لأول مرة. * "أنظر إلى سماء صناعية وأفكر في دحر الطبقات" كيف يوازن المبدع بين مسؤولية الكتابة والالتزام بالقيم كالعدالة والجمال؟ - يمكن أن تكتب عن الحرية قصيدة رديئة، والعكس صحيح أيضاً، فبعض قصائد المتنبي المهمة شعريا مكتوبة من أجل المال في مدح ملك أو خليفة، لذا فبالنسبة لي عندما أقرأ نصا فالمعيار هو "الشعر "، بمعنى الشاعرية الموجودة في النص. لا تهمني سيرة الشاعر الشخصية قدر ما يهمني صدق الموهبة، وجمال ما يكتبه، فما يبقى في النهاية هو الشعر. في نفس الوقت، حتى عندما أقرأ قصيدة سيئة من وجهة نظري أقول إن الفعل الاجرامي الذي ارتكبه الشخص هو محاولة كتابة قصيدة وذلك نفسه نزوع نحو الجمال. أعتقد أن الالتزام بقيم العدالة والجمال هو التزام انساني وليس أدبياً. * "أرى نفسي تبتعد على قوارب غرقى ولا أعرف كيف سأنجو من الأحلام؟ " إلى أين تأخذك الطموحات الإنسانية؟ - في الصغر كان الجميع يخبرونك أنه عليك أن تدرس هذا وتعرف ذلك لأنك يوما ما "ستغير وجه العالم". نكبر ونعرف أنه صعب تغيير وجه العالم. العالم البشع القاسي لا يحتاج فقط تغيير وجهه حتى نستطيع أن نعيش فيه، بل نحتاج إلى عالم آخر جديد. تأخذني الطموحات الانسانية إلى المشاعر البسيطة: ألا تفسد الحياة طبيعتي. ليس بالمعنى الأخلاقي لكن كممارسة. أريد أن أحافظ على إنسانيتي كما أحبها دون أن تخدشها الحياة، أن أحتفظ بإحساسي بالآخرين، لا أقصد بذلك للشفقة أو التباكي ولكن كدافع قوي لمواجهة الحياة ومحاربة أي إحساس باليأس. هناك غرباء كتيرون في العالم يشبهونني وأريد أن أقف بجانبهم. أن أفعل الخير.