لندن: محمد رُضا قبل يوم واحد من بدء عرض «عن يهود مصر»، أصدر جهاز الأمن القومي قراره بمنع عرضه التجاري المرتقب. المنتج هيثم الخميسي أعلن أن الفيلم نال تصريح الرقابة المصرية من قبل، ولم تكن هناك مشكلة في عرضه حتى الآن. مخرج الفيلم أمير رمسيس قال إنه لم يتسلم أي تفنيد للسبب. وكالات الأنباء سارعت لنشر الخبر.. وصحيفتا «واشنطن بوست» و«ذا نيويورك تايمز»، من بين أخرى، كانتا حاضرتين للكتابة عن موجز تاريخ اليهود في مصر. وهي كتابة مدفوعة بالمراقبة الدولية الدائمة لاتجاهات السياسة المصرية حيال كل الأوضاع المتأزمة في الشرق الأوسط. وكما حدث سابقا أكثر من مرة فإن الفيلم، الذي لم يكن سمع به أحد، باستثناء القلة التي شاهدته في مهرجان «بانوراما الفيلم الأوروبي» في أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، صار اليوم معروفا لكل من يتابع الأنباء على الإنترنت والمحطات الفضائية. فيلم رمسيس يعرض في نحو ساعة ونصف تاريخ وجود اليهود في مصر، وهو تاريخ ليس محصورا في بلاد النيل فقط، فاليهود عاشوا في شبه الجزيرة العربية واليمن والمغرب والجزائر ولبنان وليبيا وسوريا والعراق، وبعضهم لا يزال. يمضي الفيلم مؤكدا أنه حتى عام 1935 لم يشعر اليهود بأي ضغط أو عداء، لكن لاحقا تنامى هذا العداء تدريجيا، وإن لم يظهر على السطح إلا بعد ثورة 1952. ما بين التاريخين مارس اليهود نشاطات فنية وإعلامية واقتصادية كثيرة، وكانوا جزءا من اللحمة المصرية. لكن احتلال فلسطين سنة 1948 أدى إلى هجرة غالبية اليهود الذي قدر عددهم آنذاك بنحو 65 ألف نسمة. وما لبثت حرب 1965 أن أجهزت على إمكانية بقاء اليهود على أساس من عدم التفرقة بين الديانة والمعتقد السياسي أو حتى الدولة المعادية. اختيار المخرج أمير رمسيس من الشخصيات التي يتابع مآلاتها مهم، فهو قصد أن يكون تعبيرا عن الثقافة الواسعة التي تحلى بها اليهود آنذاك ووفرتها لهم الحياة المدنية أيام لم يكن أحد يمارس الفوارق الاجتماعية والدينية والسياسية بين مذهب وآخر. فالشخصيات التي يقابلها ميسورة ومثقفة، والأهم أن العديدين من أبناء الجالية اليهودية لجأوا غربا إلى أوروبا (خصوصا باريس) وليس شرقا إلى إسرائيل. ويشير الناقد علي أبو شادي في مقال نشره في صحيفة «الوطن» إلى نقطة تثير الاهتمام، إذ كتب «إلى جانب مجموعة باريس التقى المخرج نموذجين مدهشين من يهود مصر الذين رفضوا مغادرتها وأصروا على البقاء بها رغم ما لاقوه من تعسف وعنت وتعصب مقيت». والفيلم بالفعل يعرض مقابلتين، واحدة مع ألبير رعيل، الذي اعتنق الإسلام وتزوج من مسلمة لكن الدولة عاملته كيهودي، والمحامي شحاتة هارون، وهو محام شيوعي له نشاطات اجتماعية دفاعا عن حقوق الطبقات العاملة. كل هذه العناصر، وسواها، أثرت تجربة مهمة يحتاجها المشاهد الحاضر لإعادة تقييم أوضاع أغدقت عليها المراحل السابقة بتعتيم كبير، ويبدو أن هذا التعتيم لا يزال إجراء محتملا لأسباب سياسية واضحة. ويعزز ذلك أن المنع، وهو قرار ينفيه بعض المسؤولين الحكوميين، مر من فوق الرقابة الرسمية المخولة بالسماح أو بمنع الأفلام والأعمال الفنية، مما يعني أن قرارا حاسما صدر ربما خوفا من إثارة أعصاب المواطنين بعد واقعة الفيلم المعادي للإسلام «براءة المسلمين» الذي تسبب في إشعال ردود فعل عمّت بلدانا كثيرة من بينها مصر ذاتها. * سوابق * «عن يهود مصر» ليس أول فيلم تسجيلي مصري يتعاطى موضوع اليهود الذين غادروا البلاد. ففي عام 2007 أنجزت المخرجة المصرية نادية كامل فيلما تسجيليا بعنوان «سلطة بلدي» دار حول جذورها اليهودية (لناحية الأم التي اعتنقت الإسلام حين تزوجت) ورحلتها مع والديها إلى إسرائيل للقاء أفراد من العائلة كانوا نزحوا إلى إسرائيل قبل نحو نصف قرن. ذلك الفيلم أثار عاصفة شعبية ورسمية بسبب موضوعه وبسبب زيارة المخرجة إلى إسرائيل وهي الزيارة التي وُصفت، كما الفيلم، بأنها تطبيع مع «العدو الإسرائيلي». وفي الإطار التسجيلي نفسه، قامت المخرجة الجزائرية صافيناز بوسبية بتحقيق فيلم من تمويل فرنسي – إماراتي - آيرلندي مشترك عنوانه «إلغوستو»، والذي يحيط بفن الغناء الشعبي الذي تتألف عناصره من موسيقى لعدة تراثات بينها دينية كما أندلسية وبربرية. تقوم المخرجة بمهمة إعادة جمع أفراد فرقة موسيقية قوامها عازفون جزائريون مسلمون ويهود، كانت انحلت منذ خمسين عاما أو نحوها، ساعية لأن يكون اللقاء منتجا لاستمرارية فنية وثقافية انقطع وصالها ليس فقط برحيل اليهود من أفراد الفرقة، بل بتشتت مسلميها أيضا وابتلاع الأيام لتاريخ لا سبيل لإحيائه إلا بإعادته، صوتا وصورة، إلى الحاضر. هناك لقاء في المفاهيم يسود هذا الفيلم من خلال مقابلات المخرجة مع المسلمين واليهود وحديث كل فريق المعزز بالمشاعر الطيبة حيال الآخر. ما لم تستطع المخرجة تأمينه هو الجو الجغرافي للقاء حينما سعت لأن تقيم الفرقة، التي كان أسسها الحاج محمد العنقا، حفلها الأول (وربما الأخير) بعد كل تلك السنوات، في مدينة مارسيليا. المخرجة محكومة بأنها لم تجد لدى المسؤولين الجزائريين دعما يمكّنها من تكملة رصف الماضي وإقامة الحفل في الجزائر. لكنها من ناحية أخرى نسجت حفلا كبيرا لا يعكس القيمة الشعبية حين كانت الحفلات تقام في المقاهي والحانات. إنه فيلم مؤثر يعيد لحمة التواصل بين فنانين، مؤكدا قدرات السينما الفذة في إعادة رصف الحياة وبل توجيهها من جديد. المشكلة الدائمة هي أن الحكم على الأفلام - معها أو ضدها - يتم سياسيا. وفي حين أن الرقابة مفروضة ومرفوضة، فإن البعض يحاول دوما لعب دور الرقيب حتى حين يعلن موافقته على عمل معين متناسيا أن جزءا من التغيير المنشود هو الحكم على الأعمال الفنية.. فنيا. * «ليلى مراد وحشة»! * في مشهد دال يسأل المخرج عجوزا مصريا عن رأيه في المغنية والممثلة ليلى مراد ذاكرا له أنها يهودية. تعليق رجل الشارع هو «ليلى مراد يهودية؟.. تبقى وحشة». يكشف المشهد من دون أن يتم ذلك عن عمد وحشو للتفاصيل، كيف أن المفهوم لمثل هذه المسائل يتبع الظروف المحيطة، فلو أن التعليق ورد في أيام من التآخي بين الأديان لكان الجواب غالبا «وماله؟.. مافيش فرق»، لكن تحت وطأة الظروف الحالية فإن هناك استهجانا هو ما يبدو أن السلطات تحسبت له فمنعت الفيلم. بالمناسبة ولدت ليلى مراد يهودية لكنها اعتنقت الإسلام كما يذكر مؤرخون كُثر».