الحادثة الإرهابية التي استهدفت المصلّين في مسجد قوات الطوارئ بأبها، هي امتداد ضمن المسار الذي تخطّه التنظيمات الراديكالية الدمويّة بكل فصائلها. الجريمة البشعة كانت موضع إدانات كبرى في الداخل والخارج، غير أن الذي يمكن التركيز عليه بشكلٍ أدق «صيغ الإدانة» تلك، التي دبّجت من قبل بعض الدائرين في فلك التنظيمات الراديكالية، أو المتعاطفين معها سرًا، أو الملاحظين عليها بعض «الاختلافات» القليلة الكامنة في الدرجات لا في النوع، وفي التوقيت لا التنفيذ، وفي موقع الجريمة لا في مبدئها، وهي إدانات تحمل في طيّاتها ما يمكن قراءته بدقّة، لأن كلمات الإدانة بين سواد حروفها بياض مهمل وقول مهدر، ورمزية دالّة.. بل إن بعض حالات الإدانة لم تتجاوز القراءة العادية للحدث بدلاً من تفكيك الظاهرة وتجريمها، والوقوف ضدها والعداوة معها، وهذا هو شكل الكارثة. بعض الإدانات حملت في باطنها تحليلات أو تبريرات، حين يُربط بين عمل سيادي قامت به دولة مجاورة ضد بعض المتمردين، وتفجير مسجد القديح، أو الإمام الصادق، أو مسجد قوات الطوارئ في أبها.. حينها نكون أمام مقالة تحليلية ذات طابع متطرف، ولسنا أمام إدانة تتناول الحادث بالمستوى نفسه للجرم الذي سبّبه. ما يجمع بين الظواهر المتشددة بتعدد برامجها، وأنماط عملها، وصيغ أهدافها، هو العداء التام لمفهوم الدولة ومؤسساتها، مما يجعلهم في حالة حرب لغوية وميدانية مع معانٍ أساسية هي أساس مفهوم الدولة وشرط نضجه، ومن تجليات ذلك العداء عدم التواؤم مع مسمى الوطن الأساسي والدوران وراء ألفاظ مثل «البلاد» أو «الجزيرة العربية» أو سواها من التعبيرات، كما أن الانضواء والإيمان بجدوى المؤسسات الأمنية والعسكرية والجيش الوطني، ليس متضمّنًا في رؤاهم. ومفهوم الدولة الحديث تشكّل في أعتى الظروف التي واجهتها الدول الأوروبية إبان الحروب الأهلية وفي أعقاب النزاعات العرقية والإثنية، والقتل باسم الدين والعقيدة، والجرائم الحوثية على أرض اليمن حاليًا واضحة بمثالها ودلالتها، ذلك أنها ترفض مفهوم الدولة ومعناه، وتريد أن تسيّل صلاحيات الدولة على الأحزاب، ليكون لكل حزبٍ قواته العسكرية الميليشيوية، وإذا كانت مهمة الدولة «احتكار العنف»، بحسب ماكس فيبر، فإن أكبر أساليب تدميرها أن تهشّم بتأسيس الخلايا ونسج الميليشيات وإدارة الأحزاب المستقلّة مسائل السلم والقتال. كل الإدانات الشبيهة بالتبريرات تبيّن أن مفهوم «الدولة» ليس حاضرًا في صيغ الحديث؛ إذ تتبع عبارات الإدانة حالات اشتراط أو استثناء تجعل خطاب الإدانة نفسه منسجمًا مع النظرة المتطرفة الشاملة، ذلك أن المفاهيم الراديكالية تعوّدت على العمل فيما يتم الاشتراك فيه، و«الإعذار» في ما يكون موضع اختلاف. إن من الخطأ وضع أي جماعةٍ متطرفة بمعزل عن أختها؛ إذ ليس ثمة جسور فاصلة، وإنما هناك برامج متغيّرة، وتكتيكات مختلفة، وأنماط عملّ متوزّعة، لهذا نجد تنظيم داعش مثلاً لديه مديونية كبرى لتعاليم الإخوان المسلمين، وأبو بكر البغدادي كان من كوادر جماعة الإخوان كما يتحدث يوسف القرضاوي. ولهذا، فإن التحليلات الغربية نفسها أيضًا والصحافيين هناك عليهم تجاوز خطابات «الحقوق» التقنية والأداتية ضد إجراءات الدول تجاه الجماعات الإرهابية المسلّحة، لأن الخلاف بين الدولة والجماعة خلاف وجود وإلغاء، وتشجيع الجماعات الإرهابية يعني نقض مفهوم الدولة وهدمه. لأجل هذا تقوم الدول بصياغة قوانين ضد الإرهاب، وهي قوانين متطوّرة تبعًا لتطوّر العمل الإرهابي كما هو العمل الفرنسي والبريطاني، أو الإماراتي، والسعودي، وتقوم دول كثيرة بوضع قوانين صارمة في هذا المجال مثل مصر وتونس وتركيا، لأن الإرهاب لم يعد نشاطًا طارئًا، أو حالة عابرة، بل سيكون للأسف الشديد في قابل الأيام حدثًا مستمرًا في أنحاء الأرض، خاصة وهو يضرب في باريس كما في أبها والكويت، ويجرم في تونس كما في العراق ومصر، والجهد الدولي لمحاربته يتطلبّ بشكلٍ أساسي الجهد القانوني الدقيق ليصل إلى التحريض والتبرير والتغطية على الجريمة، وليس فقط المخطّطين والمتورّطين. إن الإدانة المطلقة والواضحة والجريئة للحادث الإرهابي هي أقل ما يمكن أن يقال لمن آمن بمفهوم الدولة ومؤسساتها القانونية والسياسية والأمنية، وهي الدلالة والعلامة على حيوية الفضاء العمومي المحروس مؤسسيًا ووطنيًا بعيدًا عن منطق «الكهوف» ذلك الجاعل من الوطن مجرد مسكن يمكن هجرانه، وأرض يمكن نكرانها، ومساحة يمكن عقوقها والاستهتار بها. إن الصمت وعدم التحدّث خير من نصف الإدانة، ونصف التبرير، والاشتراط أو التحليل أو الربط بين أحداثٍ كثيرةٍ لفهم جرمٍ إرهابي واضح الدموية، يعني أن الأزمة ليست في اللغة ومفرداتها، ولا في الوسائل ومساحاتها، بل في الفهم العميق المصحوب بالقناعة التامة بمعنى «الدولة» ومفهومها. إن مفهوم الدولة التام والمؤسس علميًا ومعرفيًا هو ما ينقض مفهوم الأمّة الذي يشجّع دائمًا على استحواذ الجماعات على الحدَث والقول والتحليل. قبل كل هذه الظاهرة الدمويّة بتجليها الحالي وبتقنيتها وعصريّتها الكارثية، قال حسن البنا من قبل: «نحن حرب على كل زعيمٍ أو رئيس حزبٍ أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام، وسنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة». إنهم يخافون من مفهوم الدولة، ويهابونه، ويحاربونه.