عقب أحدهم على ما سبق وان كتبته بشأن المعارضة وحاجتها الى انجاز مراجعات حقيقية وصادقة تعيدها الى مسار الحراك السياسي القانوني لاستثمار جهودها في بناء الديمقراطية والتنمية وتحرير المجتمع من حالة التوتر، وحاجة اليسار بوجه خاص الى فك ارتباطه مع القوى الطائفية، قائلا: (لا أستطيع اليوم ان نعلن عن أي مراجعة علنا، ولا أستطيع شخصيا ان أبدي رايي بصراحة فيما كتبت، ولكن سوف يأتي الوقت الذي نقول فيه كل شيء وهو وقت الحساب) !!. فقلت له هاهنا أمران: الأول، يطرح سؤالاً في مستوى غرابة الطرح، والثاني يتعلق بتهمة مكررة سأرد عليها فوراً ودون تردد أو تأجيل، لأنني لست من المرجئة السياسية، فإن كلامك ليثير الاستغراب، ولا يمكن أن أحمل تحفظك إلا على محمل الاستخفاف بالعقل، لأن مساحة الحرية المتاحة، كما أراها من الاتساع بما يسمح بأي جدل فكري أو سياسي حر، إلا إذا كنت من أهل التخفي والباطنية، لا تريد أن تظهر ما تبطن، ومع ذلك فإن ادعاءك هذا، يتناقض مع واقع الحال الذي تمارسه على الأرض، فأنت تعتصم وتتظاهر وترفع من الشعارات والبيانات ما يحمل نقداً أشد قساوة مما تنتقد به المعارضة، بل إن بعض كوادر حزبكم يشتمون الحكومة علانية ليلا نهارا، ومع ذلك لم يتعرض لهم أحد بالسوء الا من أوقع نفسه تحت طائلة القانون (على حد علمي على الاقل)، ولذلك لا أدري ما هو حجم الحرية الذي تريدونه أكثر من أنكم تتحدثون وتكتبون وتسبون كل من تريدون، وتصدرون البيانات وتسيرون في مظاهرات وتجمعات مستمرة، ترفعون فيها من شعارات الويل والثبور والموت ما يكفي لإسقاط عشر دول دفعة واحدة.!! الأمر الثاني: أن من تعييه الحيلة ويعميه التعصب عن رؤية الحقائق، يمكنه أن يهرب من مواجهتها بتلبس دور الضحية، بدلاً من مواجهة الوقائع، والأمر هنا لا يتعلق بعدم القدرة أو عدم الرغبة في الرد أو الهروب من المواجهة، وإنما يتطابق مع عدم القدرة على الرد أولاً على دعاة الطائفية، الذين يضغطون عليكم إلى درجة أنكم أصبحتم لا تقدرون حتى على تسجيل مجرد ملاحظة عبارة، أو نشر بيان مستقل، لا يمر أولاً بمسطرة التقديس المركزية إياها التي تعلم طبيعتها أكثر مني، فالعاجز عن التفرد برأي يختلف عن رأي المجاميع -لمجرد كونها مجاميع- من الطبيعي أن يعجز عن قول الحق في حينه حتى وإن كان مدركاً أنه الحق البين. الأمر الثالث: أن اعتزامك الرد في وقت تحدده لاحقا ويكون مناسباً لك، هو على الأرجح وقتك المناسب المأمول (المبطن بالتهديد) الذي تتفرغون فيه للانتقام من خصومكم السياسيين، ومن كل من انتقدكم بكلمة أو سطر أو وجه إليكم مجرد سؤال بسيط حول مسؤوليتكم عما حدث، وتلك طبيعة البديل الذي تبشروننا به، وطبيعة الديمقراطية التي تؤذنون لها، فالوعيد يرتبط بمشروع التنكيل بكل من يخالفكم الرأي أو الفكر أو الاجتهاد، وهذا تعودنا عليه، ويرتبط بنموذج حلفائكم البعيدين والقريبين. ويستوقفني في هذا الصدد، مواقف لرفاق لكم قبل أن تدفع بهم أقدارهم إلى التحالف مع الحركات الطائفية والجماعات الفاشية، وقبل أن تدفع بهم سخرية التاريخ إلى التحالف مع الإمبريالية الأمريكية التي أصبحت سفاراتها فضاءهم العام ومختبر تكتيكاتهم واجتماعاتكم وتنسيقاتكم، كانوا يحرصون قبل هذه الوقعة الكبرى على أولوية مواجهة مشاريع وسياسات الإمبريالية وعملائها في الداخل، والمطالبة بـديمقراطية مضادة تنزع القداسة عن صناديق الاقتراع، وعن البرلمانية عموماً، ديمقراطية لا انتخابات فيها، حتى لو كانت نزيهة وحرة. قال: إن انتقادكم موجه حصريا إلى الخطاب المعارض، ولا تنتقدون السلطة، خوفا وانتهازية، ولذلك وليس من حقكم التحدث عن الأخلاق في السياسة، فمن حقنا أن نلعب في الساحة بحسب مقتضى مصالحنا. قلت: هذا كلام يجعلني أجهش بالضحك، فهو يفتقر إلى الحد الأدنى من السياسة، فإذا كان الأمر عندكم أنه لا أخلاق في السياسة، فإنه لا سياسة بدون أخلاق من وجهة نظري، الأخلاق التي أقصدها هنا هي سياج القيم التي تشمل الصدق في القول والإخلاص في العمل، ورفض السب والشتم والتهديد والحط من الكرامة، أما جل ما كتبت - شخصياً- في سياق الأزمة، فقد كان في منتهى الموضوعية، يدعو إلى الحوار والوسطية وأنه لا ديمقراطية رشيدة بدون معارضة رشيدة، ولا ديمقراطية حقيقية بدون مشاركة كاملة وبدون حرية في الرأي والمعتقد والتظاهر والتعبير. قد تكون اللغة التي أكتب بها مهذبة تراعي مقتضى الحال ولا تتهور ولا تعتمد السباب واللعان مثلما تفعلون، ولكنها توصل الرسالة التي تخدم هدف التقدم على طريق الديمقراطية والحرية والمساواة ضمن أفق وطني وإنساني خال من الحقد والسادية السياسية! أما قولك بشأن تجنب انتقاد السلطة خوفا وانتهازية، فقول مهزوز لا يستقيم. فلسنا طبالين مثلما تدعي، وإن كان بعض رفاقك من الصف الأول قد كانوا من أكثر الطبالين عندما استدعت مصالحهم الضيقة ذلك-أقول ذلك دون نية للتعيير، فنحن نؤمن بقول الحق ولو كان موجعاً، ولكننا عندما نقوله نقوله بأدب جم وبروح الناصح المحب، وحتى ما نكتبه بشأن سقطاتكم أو نقوله لكم مباشرة -وجهاً لوجه دون خوف أو وجل أو مجاملة وفي جميع الأوقات وليس في الوقت المناسب مثلما تفعلون-نقوله حتى ونحن في موكب عزاء أو في مقهى على ناصية الشارع، أو في ندوة علنية مفتوحة، نقوله بمحبة لكم، وبأنكم على طريق الخطأ سائرون. نحن نطبل ولا نزمر لأننا لا نبحث عن مغنم أو مصلحة خاصة، لأن مصلحتنا كلها في أن ينجح هذا البلد وأن يعيش أهله بسلام ووئام وأن يتقدم على طريق الحداثة والحرية والديمقراطية والتنمية والتضامن ليكون جزءاً ناهضاً حياً حراً متقدماً من أمة العرب.