كيف تبدو صورة المثقف في الزمن الذي نعيشه في هذه المرحلة الراهنة؟ ما ملامح هذه الصورة بعد ما يقرب من خمس سنوات من الربيع العربي، هل ما زالت فاعلة وملهمة في الفنون والآداب كما كانت في وقت من الأوقات؟ ولماذا تراجعت هذه الشخصية في الرواية والسينما والدراما؟ وما مدى تأثيرها الواقعي في عصر التواصل الاجتماعي حيث لم يعد أحد ينتظر قراءة أو سماع مثقف بعينه؟، وللاقتراب من مناخات هذه الأسئلة المتعلقة بشخصية المثقف كان لنا التحقيق الآتي مع مجموعة من المثقفين العرب. الكاتب والفنان أمين الباشا، لا يرى حضوراً ساطعاً لصورة المثقف اليوم، ويقول:بعد أربع سنوات مما يسمّى الربيع العربي، تغيرت مشاهد الواقع، بمختلف أشكالها، واتجهت الصورة اليومية إلى ألوان قاتمة وغير واضحة المعالم. ومن هذه المشاهد، مشهد المثقف. فقد تغيّر أو انتقل المثقف إلى الظّل. فربما كان ذات مناسبة وذات مرحلة يمثّل ضميراً حراً وحياً تحتاج إليه المجتمعات، لكن اليوم اختلف المشهد كثيراً، وبات المثقف في غير هدأةٍ واهتمام. وربما صار في خبر كان بالنسبة لمجتمعه. كانت صورة المثقف وازنة وفاعلة في الواقع والمجتمع، وكم نجح المثقف في بناء مشهد الوعي على مستويات كثيرة. وكم كان فاعلاً في بناء هرم الوعي، إن بالكتابة أو بالرسم أو بالموسيقى وسواها من الأعمال الإبداعية. أما اليوم، ونحن نمرّ بمرحلة يغلب عليها طابع التحوّل أو التراجع أو الانحدار، فإن صورة المثقف بدت خارج سياقها المعهود، ويمكن القول إنها صورة خارج إطارها. وإذا ما دققنا جلياً في سبب الأمر الفاعل والمفعول به، نجد أسباباً كثيرة دفعت بالمثقف إلى خارج الإطار والاهتمام، ومن هذه الأسباب، هذا الحضور البديل للمثقف، حضور التكنولوجيا بما أنتجته من أفكار جاهزة وقناعات جاهزة. فانجذب شباب الحاضر إلى لغة التواصل الاجتماعي، بكل تنوعاتها وابتكاراتها، وبات من الأسهل لهم متابعة الجاهز من دون عناء وتعب.. نعم لقد تغيّرت صورة المثقف كثيراً، وباتت هذه الصورة باهتة في مختلف الفنون والآداب والسينما والدراما والأعمال الإبداعية الكثيرة والمختلفة. بكلام آخر، المثقف اليوم يعيش خارج السمع، خارج الاهتمام من قبل مجتمعه، لا أحد ينتظر قراءة أو سماع مثقف بعينه، الأغلبية من العامة اليوم ينتجون ثقافتهم من دون عناء، (بكبسة زر) يرسمون ويخططون وينتجون. رفيق علي أحمد، ممثل ومسرحي يقول: صورة المثقف اليوم ليست كما في السابق، ولا أقول جديداً بهذا. ولكن لابُدّ من القول والاعتراف أن المثقف الذي كان مرآة الوعي في مجتمعه ويحسب له ألف حساب في مسيرة الوعي والمعرفة والتوجيه والثقافة، هو اليوم بعيد عن هذه الحسابات والاحتمالات، بعيد ليس لأنه فاقد شرعيته ومشروعيته، بل لأنه أُخرِجَ من دائرة النور والأضواء، والذي أخرجه إلى الظّل، هو هذا النشاط المجتمعي الواسع، المتمثّل بوسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي على كافة أنواعها. أضف إلى هذا السّد- الحاجز بين المثقف ومجتمعه، ذاك الحراك الغريب غير المفهوم حتى الآن وهو حراك ما اصطلح على تسميته الربيع العربي. فهذه الأعمال والأحداث والثورات تحت مسمى الربيع العربي لم يكن للمثقف العربي أي دور في بناء معالمها وتحديد مسارها الفكري، على الأقل. فالمثقف غير معني بهذا الحراك المرتبك وهذا التشرذم العام، وربما يكون هذا أمراً جيداً. أن لا يكون المثقف العربي على صلة بهذا الحراك الغريب، فهذا يعني أن هذا الحراك هو عمل خارج مشروعية الوعي الثقافي. ولكن بمجمل الأحوال، فإن المثقف اليوم، في وطننا العربي هو صورة مختلفة عن السابق. وقد تمادى هذا الاختلاف إلى حد التلاشي، بحيث غابت صورة المثقف عن المشهد- الذي يجب أن يكون فيه وفاعلاً بتحولاته. لكنه، مع الأسف، غاب أو تغيّب أو غيّبوه. والأصح أنه غاب وتغيّب وغيبوه في آنٍ معاً، في آنٍ واحد. يكفي أن ننظر نظرة سريعة إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في ثقافة المجتمع بشكل عام، حتى نجد هذه البلادة وهذه التنبلة، حيث كل مواطن وكل إنسان هو مشروع مثقف كبير، وتالياً، كيف يمكن تحديد هوية المثقف؟ وإنني أسأل ولو ببراءة: ينتمي إلى وسائل الاتصال الاجتماعي آلاف الأشخاص بل الملايين، وكل واحد من هؤلاء يطرح نفسه مثقفاً كبيراً وأديباً كبيراً وفناناً كبيراً.. فكيف يمكن تحديد صورة المثقف؟. نادين لبكي، مخرجة سينمائية وممثلة تقول: لا تبدو صورة المثقف اليوم في أبهى حضورها، ولا هي صورة مطابقة لمراحل خلت. المثقف اليوم قد يكون في مرحلة انعطافة جديدة، أو في مرحلة غير مكتملة المعالم. وإذا ما حاولنا مقاربة هذه الصورة والدلالة على مرتبتها وموقعها في مساحة المجتمع الثقافي، لابُدّ أننا سنجدها في مساحة ظلّ وفي مسافة قليلة الخطوات وقليلة التأثير. ولا يحتاج الأمر إلى تفسير موسّع ولا إلى شرحٍ كثير، فالمشكلة تكمن في أمور كثيرة، ومن هذه الأمور التي لها تأثير مباشر، تبرز تلك الحالة العامة والواسعة والكبيرة والمنتشرة بشكل واسع وعنكبوتي، حالة الحضور التكنولوجي التي هي في متناول العامة من الناس. ولا نغالي إذا قلنا إن شبكة التواصل الاجتماعي، بكل أشكالها وأنواعها أعطت حيزاً واسعاً لكل شخص ولكل إنسان، إذ صار بوسعه أن يكون، هذا المشترك، في وسائل الاتصال الاجتماعي، أن يكون شاعراً أو أديباً أو كاتباً، بل صار أيضاً، صاحب جريدة ورئيس تحرير، كلّ هذا التحوّل الذي أعطته التكنولوجيا لإنسان اليوم، وكل هذا الانغماس والاندماج (والاستقلالية) الثقافية، كأنها جاءت لتنفي أو تُغيّب صورة المثقف عن المشهد العام. ولم يعد المثقف كما كان في السابق، قدوة في مجتمعه. نعم في عصر التواصل الاجتماعي لم يعد هناك إلاّ قلّة قليلة، تنتظر وتقرأ وتستمع إلى مثقف ما، أو إلى قامة ثقافية فاعلة في مجتمعها. وهذا التراجع ينسحب حتماً على السينما والرواية والدراما، فصورة المثقف هي جزء من كل وقائمة على المساحة الثقافية الواسعة، إذا اختفت أو خفّ وهجها في ناحية ثقافية معينة، فإن هذا (البُهتان) سيصيب النواحي كلّها. سليمان بختي، كاتب وناقد وناشر يقول: صورة المثقف في الوقت الراهن تبدو رمادية وغير واضحة المعالم. وقد تراجعت فعاليتها في محيطها وكأنها غير موجودة اليوم في عالم الإبداع والفنون والآداب. ونلاحظ بشكل واضح تراجع شخصية أو صورة المثقف في مختلف الفنون والأعمال الإبداعية وخصوصاً في السينما والرواية والدراما، والشعر إلى حدٍ ما. صورة المثقف التي كانت بمثابة البوصلة التي ترشد إلى الوعي السليم، وترفع من منسوب الثقافة - ثقافة المجتمع، هي اليوم خارج مهامها أو غائبة عن واجبها المفترض والضروري. ولا يحتاج الأمر إلى تفسيرٍ مسهب كي نصل إلى الجواب الثابت والأكيد على سؤال، لماذا تراجعت صورة المثقف وكادت تختفي داخل مجتمعها؟ فالجواب واضح، وربما يسبق السؤال نفسه. تلاشت صورة المثقف لأنها لم تستطع (الصمّود) بوجهتسونامي وسائل الاتصال الاجتماعي، بكافة أشكالها وألوانها لكل شخص، اليوم، شاشة صغيرة أو كبيرة، يطلّ من خلالها على العالم. فهناك من يقدّم نفسه أنه الشخصية الثقافية الأولى، وهناك من يتباهى بأنه شاعر العصر، وهنالك الكثير الكثير من (الرمّوز!) الثقافية المفاجئة - والتي تظهر، بسحر ساحر، ما إن تفتح صفحة لها في تويتر أو فايس بوك أو واتس آب وسواها من وسائل الاتصال الاجتماعي حتى تظن أنها سيدة الشاشة، ثم تُعلن (تربّعها) على عرش الإبداع.. بعد مرور أربع سنوات على الربيع العربي، لا تبدو صورة المثقف العربي في أحسن حالها أبداً.. ويرى الشاعر محمود قرني أن جوهر السؤال حول صورة المثقف في الوقت الراهن، يحتاج إجابة قاطعة لن يلبيها المثقف بالتأكيد، بينما ستلبيها طبيعة التحول السياسي والحقيقة الثورية التي غابت عن المثقف طوال أكثر من أربعين عاما لعب فيها دوراً مشيناً بحسب تعبيره كأحد الأدوات التبريرية لخطاب سياسي قرين لفاشية لم تتراجع عن إشاعة مناخات الفساد والتواطؤ، فسقطت صورة المثقف كممثل أعلى للحقيقة وتحوّل إلى واحد من كبار مزيفيها، ويضيف قرني أن المثقف الآن يلعب دوراً نقدياً في محاولة لهدم بناءات الدولة الوطنية التي تتشكل في ظروف غير مسبوقة بمنطقتنا، ذلك من دون النظر إلى طبيعة الوظيفة النقدية وظرفها التاريخي. ويتابع: صورة المثقف يُعاد النظر فيها، وإن كان ذلك يتم عبر وجوه لا تملك، في الأغلب، جدارة التمثيل، لكنها خطوة سيتم الثناء عليها من أناس طيبين وحسني النية، ربما كانت صورة المثقف خلال الأعوام الأربعة الماضية من عمر الثورة تضمن الكثير من المصداقية لهذا الرأي المفرط في تشاؤمه، ففي الوقت الذي استمع فيه المجتمع لمئات بل آلاف الأصوات، بينهم قلة من الساسة المحترفين وأكثرية من الدجالين والحواة، لم يكن صوت المثقف أكثر من ترجيع بعيد لأصوات أعلى، وسط صفير الميادين وزئير شعب اكتوى بأكاذيب واسعة الانتشار.. وهنا تم اختصار المثقف في حناجر شعرية كانت تكتب أشعاراً عن ثورة عابرة للقومية، بأدوات شعرية قادمة من الماضي، غير أن المستقبل، رغم ذلك يبدو مدعاة للتفاؤل، ليس لأن المثقف التبريري سيقلع عن وظيفته، وليس لأن النظام السياسي سيقلع عن محاولات التدجين وشراء الذمم، لكن لأن المجال العام المزكوم بالفساد طوال أربعين سنة أو يزيد، لم يعد له من ظهير يسانده، لأن الآلة الجهنمية التي كانت تنفخ في روحه لم تعد صالحة لأداء أدوارها القديمة نفسها، هذا طبعا لا يستثني مثقف الثورة الذي هو في حقيقته ركام دولة الفساد والتوريث، ما تغير هو نبرة الخطاب لكن مضامينه ما زالت تعج بالتسافل، ولنا أن نتصور هؤلاء الذين يزايدون على الدولة نهاراً ويتسللون إلى فتات موائدها ليلاً، إنهم ثوار وجواسيس في التوقيت نفسه. ويقول الروائي الدكتور زين عبد الهادي: إن دخول العصر الصناعي قد مهد لظهور مثقف من نوع جديد، أشارت إليه فيرجينيا وولف بجملة قالتها منذ مئة عام العالم تغير، كما أن التحولات الكبرى منذ هذا التاريخ أجهزت تماماً على المثقف التقليدي، الذي ما زال لدينا، المثقف في العالم العربي هو ابن العصر الزراعي والبداوة، بينما مع التحولات الهائلة في نهاية الألفية الثانية وظهور مجتمع المعرفة حدث أن ظهر مثقف من نوع جديد لم تعرفه البشرية من قبل، ومع ذلك ما زلنا نتحدث عن الدور التقليدي للمثقف، كيف يمكن أن نتحدث عن هذا الدور في ظل تغير العالم وتحولاته، ومع ذلك فإن التحول لم يشمل العالم العربي في المرتين، فما زالت الانتماءات الكبرى للمثقف العربي للعصور القديمة على الرغم من الزلزال الذي حدث خلال السنوات الخمس الماضية. ويرى عبد الهادي أن المثقف العربي مرتبك، وفقد بوصلته في لحظة مشتبكة وشائكة، مؤكداً أنه منذ السبعينات ومع التحولات الاقتصادية والسياسية فقد المثقف دوره الأكبر، المتعلق بالمواجهة مع الدولة، ويوضح قائلاً: الدول، وأعني بها السلطة، ربما سحقت المثقف التقليدي، وربما نجحت في أن تضعه داخل حظيرة الدولة، لذلك لم يعد المثقف مسموعاً حين بدأ اختفاء عدد كبير من مثقفي القرن الماضي، في نهايته تحديدا، بالموت والانسحاب من الحياة الثقافية بحكم العمر أو استقطاب الدولة له، أصبح المثقف في حاجة لإعادة تشكيل نفسه في ظل ظهور أدوات جديدة للمعرفة، وفي ظل ارتفاع الوعي الجمعي، وفي ظل محاولات الدولة المستمرة لاستقطابه، وعلى ذلك فمن هو مثقف عصر المعرفة الجديد، وهل دوره سيظل الوقوف في مواجهة الدولة والتمرد عليها، أم معاونتها، وهل سيختفي عصر الصحيفة الورقية والكتاب الورقي والإذاعة والتلفزيون أو الأدوات التي ظهرت مع العصر الصناعي، وهل وجود مجتمعين هما المجتمع الطبيعي ومجتمع الإنترنت يتطلب من المثقف أدواراً جديدة، وهل عليه أن يكتب كل لحظة وليس كل يوم أو كل أسبوع كما كان يفعل في العصر الصناعي وما قبل عصر المعلومات، وإلى أي حد يمكنه أن يتمرد بعدما نجحت السلطة في استقطابه، إنها أسئلة من نوع جديد تمهد لظهور المثقف الثالث، أو مثقف عصر المعرفة. ويرى الروائي صبحي موسى أنه مع سيادة عصر الانفتاح في السبعينات، ومع ظهور تقنيات ما يسمى ثورة الاتصالات، وصورة المثقف في المجتمع المصري مهتزة، ولا تلقى ما تستحقه من الاحترام والتقدير، وتم اختصارها في شكل البيست سيلر أو النجم الثقافي، وليس المفكر أو الضمير الثقافي أو صاحب الرسالة أو غيرها من المسميات القديمة والمعتادة. ويشير إلى اختفاء صور أخرى كثيرة كان لها حضورها في المجتمع كصورة المعلم وصورة العالم وصورة الفنان التي تم اختصارها لصالح صورة الممثل فقط، لافتاً إلى أن الاختصار في العصر الحديث المؤمن بالنجومية الإعلامية في برامج التوك شو القائمة على الصحفيين وليس المثقف بمعناه العضوي، ومن ثم انتهى دور المثقف لصالح دور رجل الإعلام المصاحب لرجل الأعمال، وكأنه ارتباط شرطي. ويضيف صاحب موسى: بعد ثورة يناير حدثت متاهة كبرى في المجتمع، فقد انفتح هويس تحقيق الأحلام، وصار الكل يسعى للبحث عن نفسه بنفسه، وليس في حاجة لمثقف يرشده أو يدله على الطريق، وأسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تسييل كلمة مثقف، فأصبح الكل يرى نفسه مثقفاً ومفكراً وعضوياً أيضا في نفس اللحظة، وانتهى الجميع بأن المثقف لا يرى إلا نفسه، حتى إن الصورة الفولكلورية التي اعتادت الميديا على تقديم المثقف من خلالها كرجل ذي شعر مهوش يرتدي بيجامة مقلمة ويردد كلاماً غير مفهوم، هذه الصورة انتفت ولم تعد موجودة، بما يعني أن حتى حضورها في مخيلة كتاب الدراما ولو من باب السخرية منها لم تعد متاحة. ويعتقد موسى أن صورة المثقف يتم الآن إعادة تشكيلها مثلما يتم إعادة تشكيل صور أخرى كثيرة وغائبة، مؤكداً أنه لا نهضة لمجتمع راغب في النهوض من دون وجود هذه الصورة بشكل واضح وقوي ويلقى نوعاً من الاحترام والتقدير. ويقول: إن المشكلة الآن تكمن في الاتفاق على من هو المثقف، وما شكله الذي يمكن للمجتمع أن يقبله عليه، بمعنى أن المفاهيم القديمة عن المثقف لم تعد تتناسب مع ثورة الاتصالات والميديا الراهنة، ولم تعد تتناسب مع القيم الجديدة التي يرغب فيها مجتمع خارج من ثورة، حين تتفق عناصر هذا المجتمع على هذا المفهوم أو غيره سوف يتم تسييده وتداوله بوضوح وقوة كعلامة النصر في لحظات الفوز. ويرى أن الصورة التي من المحتمل الاتفاق عليها هي صورة المثقف المستقل، المثقف الواعي والمحترف والقادر على أن يربح من إنتاجه الأدبي أو الثقافي بشكل عام، المثقف غير المنتمي لحزب أو مؤسسة لكنه ليس على عداء مع أحد، وحتى ينتبه المثقفون أنفسهم إلى هذه الصورة وكيفية الوصول إليها، فإن المجتمع سيفرض عليهم أدوات تليق بحضورهم في هذه الصورة، وحتى تكمل هذه الأدوات وتلك القناعة بها علينا أن نتعامل مع الصحفي على أنه المثقف، ومع السمسار على أنه صاحب العقار. الأكاديمي والمثقف الدكتور عبد السلام ولد حرمة يقول: الثقافة والمعرفة نشاط ذهني وسلوكي يحتاج اكتسابهما والقدرة على ( إعادة) إنتاجهما لنمو تراكمي على المدى الطويل أو المتوسط على الأقل، ولهذا ارتبط ظهور المثقفين بحجم وتواتر الأجيال التي تقبل على متابعة إنتاجهم وتوظفه في المخزون المعرفي العام للأمة في مختلف الفنون ومختلف الحقب وإلى انقياد تفاعلي يمكن من ربط المجتمع بوسائل تداول الثقافة والأفكار وأهمها الكتابة والأعمال الفنية الأخرى الكثيرة، وهو ما تضاءلت فرص تداوله بين أوساط عريضة من مجتمع الثقافة التقليدي وانحسرت لصالح الثقافة السهلة التي تُفْرِطُ وسائل تحصيلها وإنتاجها الثقافي في استغلال ما توفره الحواسيب ومحركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي من (خدمات) ذات بعد ترفيهي تقني تنحسر معه المطالعة الجادة وبناء الأفكار وتوسيع المدارك والإطلاع الدقيق على التجارب الفردية للمبدعين التي هي مداميك الثقافة الأساسية. وضاعف من هذه الأزمة هبوب رياح القنوات العربية الهوجاء الحاملة لما يختمر في الساحة العربية من معارك تنشر الدموع والدماء في الشوارع، وتفرض نفسها على الإنسان في البيت والجامعة والمكتب وحتى في نوادي الأصدقاء ومنتجعات الترفيه والنزهة. سنوات قليلة زاخرة بأعظم الحرائق وأكبر الفيضانات التي اجتاحت مجتمعنا وتوقفت معها خطى المنجز الثقافي الذي كانت تسير عليه في العقود الماضية، أو انعطفت على الأقل نحو الاتجاه غير الذي كانت تسير عليه مع جيل النقلة الثقافية في الوطن العربي جيل إدوارد سعيد ومحمد عابد الجابري في رؤيته الفكرية النقدية الغائرة في تراثنا ومختلف عصوره وأفق انفتاحه الراهن، أو جيل نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف من المبدعين في انتقائه للواقع وتكثيفه تموجه والسعي إليه من خلال رؤيا شاملة مدفوعة بجرأة فكرية متقدمة، ومشدودة بالمحافظة على الهوية العربية، والتعميق للبعد الإنساني تشكيلاً وإيقاعياً ورؤية. ويضيف ولد حرمة: المثقف كما يرى إدوارد سعيد فرد مُنِحَ قدرة على تمثيل رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو رأي وتجسيدها والنطق بها أمام جمهور معين ومن أجله، ولن يكون متاحاً التواصل معه إلا من خلال التعمق فيه ومتابعة نشاطه على نحو لصيق وهو ما يجعل ضعف القراءة عنه أو تشتيتها معيقاً لفهمه ومحاورته، وهو ما جعل العزوف أو الدعوة للعزوف عن تركيز القراءة على مثقف واحد أو تخصص بعينه عامل إضعاف لمن يطلب منهم دوماً وعلى نحو مؤكد الجنوح نحو التخصص والقراءة العمودية التي توصل إلى العمق وتتيح لصاحبها معرفة كنهه بدل القراءة الأفقية التي تبقيه طافياً على السطح. الدكتورة والأديبة أم كلثوم بنت المعلا تقول: من منطلق أن صورة المثقف هي تلك الومضة بين ثابت ومتغير، ثابت تمثله الثقافة الأم ومتغير يجسده الواقع المعيش، تتحصل لدينا صورة ثلاثية الأبعاد إذا استحضرنا المتلقي بوصفه منتجاً ومتقبلاً في الآن ذاته. بيد أن ربط الإشكال المتعلق بصورة المثقف في وطننا العربي بما يسميه بعضهم تجوزاً ب الربيع العربي وهو في اعتقادنا أقرب إلى الخريف، أمر لا يخلو من وجاهة، وإن كنا نراه عكسي التأثير، بمعنى أن مكانة المثقف لم تتأثر سلباً بما يعيشه الوطن العربي من تراجيديا واقعية جعلت الثقافة الأساس المشترك بين الجميع عن وعي وعن غير وعي، على اعتبار أنها الوميض الواعد بالخلاص، بل لا نبالغ كثيراً إذا قلنا إن مجال نفوذه القسري اتسع لا فيما يتعلق بالدوائر النخبوية الضيقة النخبة أو من خلال مخرجات الفنون من دراما وأعمال سينمائية، بل من خلال المد الرقمي ووسائط الاتصال الحديثة، التي جعلت الثقافة تغزو المتلقي إن لم نقل تأسره عنوة، وهو أمر ليس بالجديد حيث تشهد المعطيات التاريخية على أن الأدب والثقافة يتناسبان طرداً والأزمات الاجتماعية والسياسية التي بها يمر المجتمع العربي. ولعل ما وصل إليه الأدب الأندلسي من ازدهار وقوة في عصر الدويلات والطوائف أبلغ مثال على ذلك، كما يمكن أن يعد تجذر تجربة النقد الثقافي وسعيها الدؤوب إلى أن تبدو أكثر إقناعاً، دليلاً واضحاً على تحول جلي لتلك الصورة الثقافة النمطية التي تعول على تغليب البعد البراغماتي الآني وتتبنى قانون التأثير المباشر، إلى مستويات وأبعاد جديدة من الشمول في النظرة والتوسع في مجال الاختصاص والتعاطي مع القضايا الاجتماعية، لا من موقع الوصف والتنظير فحسب، بل بالممارسة والتنوير والوعي بالإمكانات المتاحة للمثقف انطلاقاً مما يتبوأ من منزلة قبْلية في المخيال الجمعي. الشاعر الموريتاني النبهاني أمغر يقول: بعد 4 سنوات مما يسمى بالربيع العربي يبدو المثقف العربي هو الغائب الأكبر حيث يلاحظ خفوت مقيت لصوته واستسلام قاتل لهذا الواقع الجهنمي، فقد كان الأجدر بالمثقف أن يقود وأن يفكر وأن يستشرف وألا يتفرج على الأمة وهي تتجرع زمناً علقمياً.. لقد كان عليه - وذلك أضعف الإيمان أن يطل على هذا الواقع ولو من باب الآداب والفنون.... ويضيف: إن سطوة الإعلام الاجتماعي ومواقع تواصله المتحكمة سيف على المثقف العربي، ذو حدين، فمن جانب اختلط فيه حابل المثقفين الحقيقيين بنابل أدعياء الثقافة وأباطرة النسخ واللصق، لكنه من جانب آخر وفّر منبراً لمخاطبة الناس بشكل أقرب إلى خطاب: وجه لوجه! وفي النهاية لا أحد إلا وهو مقتنع بأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض.