يتسللُ عبيرُ الياسمينةِ المتكئةِ على نافذةِ الغرفةِ إلى أنفاسِ أحمدَ ليملأَ روحه انتشاءً ويخترقَ شعاعُ الشمسِ شقَ الستارة فتتحركُ هالاتُ الضياءِ، تتراقصُ على حوائطَ الغرفةِ وسقفها، وككل صباحُ تبدأُ معاركَ الكرِ والفرِ بين أحمدَ وهنيةَ صغرى شقيقاتِهِ التي تكبُرُه بعامين فهما طفلان لايتفقان كقطبي مغناطيسَ، ولدٌ مدللٌ وبنتٌ غيورةٌ. أحمدُ... فتًى صغيرٌ ما زال يترنحُ بمدارج الطفولةِ وقد اجتازَ السابعةَ من العمرِ، ولدَ لعائلةٍ عطشَى لمولودٍ ذكرٍ، فأبوه قبلَ ولادَتِهِ كان يتكئُ على ثماني وأربعينَ سنةٍ تكادُ تُلامِسُ التاسعةَ والأربعين، وقد صاحَ الشيبُ بجانبي رأَسِهِ وبدا كمقاتلَ يرتشفُ الحكمةَ من بياضِ سنينِهِ، وهو أبٌ شاكرٌ حامدّ غير متذمرٍ مؤمنٌ بقضاءِ اللهِ وقدرهِ... يلذعُ خاطرَه كلما اتجَهَ إلى المسجدِ مَرْأَى أَقرانِهِ وهم يصطحبون أولادَهم لأداءِ الصلواتِ في المَسجدِ ويتحلقون حولَ آبائِهم كالفَراشِ والحسرةِ تنتحبُ بطياتِ فؤادِهِ، يكابدُ الأمرين ولا يذعنُ لنصحِ الناصحين بالزواجِ ثانيةً على زوجتهِ الوفيةِ علَّها تُقرعينَهُ بولدٍ يطفئ لهيبَ شوقِهِ الثقيلِ. أمُّ أحمدَ مؤمنةٌ متدينةٌ أغدقتْ بالْحَمِلِ لسبْعِ مراتٍ خلَتْ،عن سبعِ بناتٍ كالاقمارِ، تأكلُ الغيرةَ قلْبَها كلما رأتْ صغيراً متربعاً على صدرِ أمِّه أوتسيرُ بِه وقد زينتهُ كقافيةٍ وشحتْ جمالَ قصيدةٍ أمويةٍ قالها شاعرٌ مغرمٌ. طوالَ هذه السنواتِ كانت تجلدُ روحَها بسياطِ الشوق والانتظار لحلمٍ جميلٍ يداعبُ خيالَها في كل وقت وآن. فهي تعاني من الغمزِ واللمزِ كلما جلسَت وسط نسوةٍ بمجلس عزاء، او حفلةِ عرس، وما بين مشفقة عليها وشامتة بها كانت تكابدُ آلامَ الحسرةِ والإشفاقِ على نفسها بدمع كالجمراتِ ففي كل مرة تحمل فيها تبتهلُ إلى الله أن يعوضَ صبرَها بحمل ولد تقر به عينُها وتسعدُ زوجَها فبعدَ هنية صغرى بناتِها... أفصح تكور بطنِها عن حملٍ جديد... استبشرتْ به خيراً وتجدد أملُها واخضرَّ اليابسُ من أحلامِها. حانتْ ساعةُ الولادةِ وحضرت القابلة، وبدا الوقتُ ثقيلا جدا كأن الثواني شدّت بامراسٍ غليظة، فتحلقتْ بنات ام احمد حول بعضهن جلوساً في ركن قريبٍ من غرفتِها كعقد منظومٍ من اللآلئ تشعُ وجوههن ضياءً علاه سحابة من الترقبِ والقلق وهن يلبسن لباس الصلاةِ الابيضِ يرفعن ايديهن ويبتهلن بالدعاء لبارئهن أن يخففَ على امهن ويعطيها ما تحلمُ به ويحلمن،عندما أطلقت القابلةُ جملتها التي طالما حلمتْ بها منذ عشــرين عاماً... مصحوبةُ بزغرودةٍ طويلة بالغت برفع صوتِها وكأن علو صوتِها يزيد من مكافأتِها. - مباركٌ... ولدٌ... انه ولد... حتى عم البيتِ موج من الفرحِ... وكأن سحائبَ الرحمـات هطلت عليه تترى بوابل من الهناء والسعادة والحبورِ إذ انفرط عقدُ اللآلئ.. وصرن يتقافزنَ ابتهاجاً«ودموع الفرح تنثالُ من محاجرهن. نَشأ أحمدُ كأميرٍ أندلسي تحيط به الاميراتُ له سبعَ أمهات وعدوة غيورة اسمها هنية عانت منه ما عانت حتى تكادَ دمعتُها لا تجف من عينها بسببه فإذا ما اشتكت لا أحد يهتمُ لشكواها...وإن بكت فلا ناصرَ لها... حتى تحولت لفتاةٍ شرسةٍ تأخذُ حقهَا بيدها...وتنتزعُ ما تريد انتزاعاً من عدوها وإن صاحبَها ذلك شد شعرَ أوتأنيب من شقيقاتِها أو صفعاتِ لازمتْ طفولتَها. ما أن ارتفع صوت المؤذن من المسجد المجاور لبيتهم مناديا لصلاة الجمعة حتى هب احمد تاركا العابه، مسرعا للوضوء ومناديا أباه، للذهاب للمسجد، فابتسم أبو احمد الذي الف شغف ولده وتعلقه بالمسجد قائلا: ثوان فقط ياشيخ أحمد. بعد إتمامِ وضوئه... تسابقت أخواته لإحضار لباسِ الصلاةِ له فهذه تحضر القفطانَ المطرز بأيديهن... وتلك تحضرُ عباءته وأخرى تحضر طاقيته وهذه تشدُ حزامَه المنقوشِ بخيوطٍ ذهبيةٍ وأخرى تلمعُ له مداسَه وأخرى تسرح له شعرَه أما أمه فتعطرهُ مع سيل من الدعوات بالتوفيق والسداد وكأنه أميرٌ متوجٌ عندما أتم هندامَه شبك يده بيد والده الذي مدها له قائلا:«هيا يا شيخُ أحمدُ»ليقفن مودعاتٍ له بقلوب شاكرةٍ لله على ما تفضل به ويرمقنَهُ بعيونٍ يفيض منها الحبُ والفرحُ يتبعنه خطوة بخطوة وعندما تعثر قليلاً قبل العتبة... شهقن كلهن بشهقةٍ واحدةٍ وقد تلونت وجوههن خوفاً ولوعةً. وقف أحمدُ يعدل هندامه مبتسماً لهن كمن أضاء فانوساً ليبدد قلقهن، يصاحبه صوت أبيه مداعباً له:«هل ما زلتَ صغيراً يا...»ولم يسمعْ باقي كلام والدِه... لأن دوياً سد أذنيه وحملاً ثقيلاً كتم أنفاسه فجأة وظلاما«دامسا»ملأ عينيه خالطه غبارٌ كثيف ملأ رئتيه حد الاختناق وغابَ عن الدنيا ولم يستفقْ إلاعلى رجع أصوات نائية بدأت تقتربُ منه شيئاً فشيئاً. ... فهمْ منها كلمةً أو اثنتين. (حمداً لله... إنه حي) ووسطَ بحر من سائل لزج ثقيل غطى وجهَه وحِملٌ ثقيلٌ كتم أنفاسَه وآلام أحاطتْ جسدَه ينوءُ بها حمله وطرقات المطارقِ تأز برأسِه لانتشاله من تحت الأنقاض غاب ثانيةً عنهم بخدر... يا للحلم الثقيل... ما زالت يدُ والدِه تمسك بيده... ومن خلفِه أمه وأخواته اللاتي يتفانين في خدمتِه وأسْمَى أمانيهن أن ينلن رضاه. بدأ يستعيدُ وعيَه ببطءٍ شديدٍ... وآلام مبرحَة تتقاسمُ جسدَه، وعنقه يكادُ يتمزق وعلى صدرِه كأن جبلاً يجثم فوقه..وكلما حرك طرفاً... صرخ ألماَ. بدت له الوجوه وسط ضبابٍ كثيف وبدأت الصورةُ تتضحُ رويداً رويداً فهذا عمه وذاك خاله وهذا جارُ أبيه وهذا كأنه طبيبٌ قد كممَ وجهَهُ بقطعة قماشٍ وما أن فتحَ عينيهِ وهو يتلوى حتى لاحت له جثثٌ كثيرةٌ متناثرةُ الأشلاءِ، عندها سمع القومُ يقولون إنه برميل. في بيتِه الكثيرُ من البراميل... فكيف يفعل هذا البرميلُ كل هذا؟! تذكرُ هنية فتساءل بخوفٍ: أينَ هي... ؟! جالَ بطرفِه في زاويةِ المشفى الميدَاني الذي تربع فوق سريره رباهُ ماذا حصلَ لوجهها وقد تهشم ونزعت منه عيناه؟، عرفها من ضفيرتِهَا التي طالمَا شدَّها منها... ولماذا ترقدُ متكومة فوق أمها؟ يا الله... أمي تكشف عن ساقها وتلك أختي... وهذا نصف أبي؟ ! بكَى بألمٍ وأبكى من حولِهِ... وسألهم عن صوتِ الارتطامِ وهذا الدمارُ فكان لا بد من إفهامِهِ... بأن برميلاً ألقي من طائرةٍ استهدف المسجدَ ومن حوله فهدم كلَّ أركانِه ولبيتِهم كان النصيب الأكبر... سأل عن أهله هل منهم... بتردد... أحدِ«حي». علَتْ سحابةٌ من الحزنِ على وجوهِ المتحلقين حولهِ بعد فرحهم بنجاتِه فعظُمت عليهم إجابته فكانَتْ دموعُهمْ وتحوقلهم إجابة صريحة فهمها رغم سنه الصغيرِة فقالَ كلمتَهُ الخالدةَ... وهو ينازعُ بعد ان اشتد المُه، ولم يزدْ عليهَا لأنه أغمضَ عينيهِ للمرةِ الاخيرةِ وأسلمَ الروحَ لبارئِهَا: - سأخبرُ اللهَ بكلِّ شيء!