رباب أحمد محمد أبوالفتح... ضيف ذكريات لهذا الأسبوع. وسنحاول هنا التوغل في سيرته العطرة منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وحتى اليوم. وسنبدأ من فريج البنعلي، وننتقل معه إلى سترة، وحتى سوق الدلالوه حيث محلة والده. ومن ثم نعرج على مدرسة الهداية الخليفية، وحتى المدرسة الثانوية بالعاصمة المنامة. ومع عمل محمد أبوالفتح في بابكو سنرحل معه إلى هناك، ومن بعدها إلى الجمارك. وسنسافر معه عبر اللنج للتوجه إلى الخبر بالشقيقة السعودية، ونعيش معه تفاصيل حياته هناك نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن 20. ومع رحيل والده عن حياة الدنيا، نعود معه للبحرين إلى حيث عمله في قري مكنزي، قبل أن ينتقل للعمل في البنك الشرقي كمساعد تجاري، إلى أن يتم ترقيته ليكون مستشاراً للبنك، وبقي فيه 32 عاماً، وهو منذ نهاية تسعينات القرن العشرين، متفرغ للعمل في مكتبه الخاص بتجارة العقار وما يتصل بها، وكذلك ينقلنا أبوالفتح إلى حكاية محمد أبوالفتح الزوج، ومن بعدها الأب ومن ثم الجد، وكل هذه الرحلة والتنقل بين سيرته كانت مفعمة بابتسامته. يقول محمد أبوالفتح علي أبوالفتح لـ "ذكريات" ولدتُ في العام 1935، في المحرق وبالتحديد في" فريج" البنعلي، حيث كانت بساطة الحياة طاغية. ترعرعت في كنف والدايّ برفقة أشقائي أحمد، علي والمرحوم عبدالله، إضافة إلى شقيقاتي. وكنا حتى آواخر الأربعينات -أي مع دخول الكهرباء لمنزلنا- ، ننتقل عبر "الجالبوت" للتصييف في سترة والاستقرار على شاطئ البحر داخل بيوت العريش والمبنية من سعف وجريد وجذوع النخيل. وهذه المنازل وموقعها القريب من البحر، يخفف من وطئة الحر، وخلال وجودنا في سترة صيفاً، نتوجه إلى السباحة في العيون الطبيعية، ومن أهمها عين الرحى، عين بياضة، عين حميمه، عين أم الأسل، عين مهزه، وعين سفاله. واتذكر أن "الأنجليز" كانوا يستحمون بمنتصف الأربعينات في عين الرحى. وشاهدت حينما كنا نصيف في سترة، الطيارات الإيطالية حين قصفت البحرين خلال شهر رمضان، وضربت مصفاة شركة نفط البحرين في العام 1940، أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ قامت القوة الجوية الإيطالية التابعة للمملكة الإيطالية وقتها بالإغارة على مصافي النفط في البحرين والسعودية، لقطع إمدادات الوقود عن القوات البريطانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. التباهي بالدجاج! وبالعودة للحديث عن حياتنا في المحرق، فقد كان والدي يعمل كتاجر أقمشة في سوق الدلالوه، وحين تضعضت تجارته كان يعتمد على تأجير منازله الثمانية، كمصدر للدخل، وكان إيجار المنزل الواحد يتراوح بين 6 ربيات إلى 12 ربيه، أي بين 600 فلس إلى دينار و200 فلس بحريني، ولكن شتان بين ما يمكنك شراءه بهذا المبلغ حينها، واليوم! وكان الرز والسمك والتمر هو مأكل الناس المعتاد، لانخفاض ثمنه مقارنة مع الأطعمة الأخرى، والدجاج أكل الأثرياء وميسوري الحال! وكانت البيوت حين تطبخ الدجاج تقوم بسلقه ومن بعدها تقطف ريشه، وتسكب مياه الغلي والريش على باب المنزل، من باب المباهاة بتناول الدجاج! وبطبيعة الحال فقد كانت البيوت البحرينية يومها، ومن بينها منزلنا تقايض بعضها البعض في المواد الغذائية، فمن يربي الدجاج، يقايض البيض أو الدجاجة بكمية معينة من الحليب، وهكذا. ولم تكن المستشفيات متوفرة خلال طفولتي، ويزور فقط أصحاب الأمراض الشديدة، "دختر" بندر، وهو دكتور من الهند يجيد بعضا من العربية ويسكن في حالة بوماهر، يطبب المرضى في منازلهم، وكان وقتها الدكتور الوحيد في جزيرة المحرق بأكملها، وكان يركب البحر مع الغاصة خلال موسم الغوص، لمعالجة المرضى، حيث كان الغاصة يبقون في البحر مدة طويلة، ويتعرضون للشمس ويتسبب الإنهاك والتعب في مرضهم، كما أن بعضهم يتعرض إلى جروح خلال رحلتهم في جمع اللؤلؤ، بل وقد يتعرضون إلى محاولات أكل أطرافهم من قبل الأسماك المفترسة. "خميسية" المعلم هذا ما يتعلق بالبيئة التي نشأت فيها خلال طفولتي المبكرة، أما عني فقد بدأت أول خطواتي في عالم العلم، مع التحاقي بالتعليم في "الكتاتيب" على يد الملا عيسى، والذي علمني قراءة القرآن الكريم. والجدير بالذكر أن "المطوع" أو معلم القرآن كانوا يستلمون من طلبتهم "خميسية" كل يوم خميس، وهي عبارة عن "أربع آنات" أي 25 فلسا. وحين انهيت تعليمي لدى الملا عيسى، وختمت القرآن الكريم، أُقيمت لي حفلة "الختمة"، وفيها تم أخذي لجولة في الحي وأنا أرتدي الملابس الجديدة، وكأنني أشبه بالعريس "المتزقرت"، وانتقل مع زملائي في "الكتاتيب" يقودنا المعلم، من منزل لآخر، وننشد الأهازيج بهذه المناسبة، ونطرق الأبواب، وتمنحني البيوت الميسورة مبلغاً من المال يتراوح بين "الربية والربتين"، سلمته لمعلمي، فيما تمنحني المنازل الأخرى "البرميت". احتفالاً بما حققت من إنجاز في إكمال قراءة القرآن الكريم، بالصورة الصحيحة. وبعيد حفلة "الختمة"، انتقلت لمقاعد الدراسة في التعليم النظامي، وبالتحديد في مدرسة الهداية الخليفية، والتي تتلمذت فيها على يد ثلة من الأستاذة الأفاضل ومن بينهم الأستاذ الشيخ عمر بن عبدالرحمن آل خليفة، الأستاذ الشيخ ماجد آل خليفة، الأستاذ عيسى الجودر، الأستاذ محمد بوهاني، الأستاذ عبدالرحيم رزبة "مدرس اللغة العربية"، الأستاذ مصطفى راشد الخان، وآخرون ممن كان لهم فضل ليس في تعليمي فحسب، بل في تربيتي وتنشئتي أنا ومن هم من جيلي حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، من جد واجتهاد على جميع الأصعدة في الحياة، إضافة إلى الدور الذي لعبه أهالينا في تربيتنا. في الحلقة المقبلة ذكريات أكثر تشويقاً لرجل الأعمال محمد أبوالفتح فترقبوها الأسبوع المقبل.