يعيش النظام الإقليمي العربي أحلك فتراته في المرحلة الراهنة، نتيجة للأزمات والصراعات التي عمّت المنطقة برمتها، مما فتح المجال لتدخلات أجنبية لا تخفى مخاطرها؛ وسمح لمجموعة من القوى الإقليمية، كما هو الشأن بالنسبة إلى إيران وتركيا، لتلعب أدواراً مختلفة داخل المنطقة. وعلى الرغم من الآمال التي أفرزتها أجواء الحراك التي شهدتها مختلف الدول العربية في بداية الأمر، باتجاه استثمار الإمكانات البشرية والطبيعية والاقتصادية المتاحة في بناء نظام إقليمي متطور ووازن؛ وتبوؤ مكانة محترمة إلى جانب الدول الفاعلة عالمياً، ومواجهة التدخلات المتزايدة لبعض القوى الإقليمية والدولية في المنطقة ودعم القضية الفلسطينية.. فإن تطور الأحداث في عدد من دول الحراك وما خلفته من تأثيرات سياسية واجتماعية واستراتيجية لم تستطع الجامعة العربية أن تتعاطى مع مجملها بالفاعلية والنجاعة المطلوبين، فتح المجال للعديد من التدخلات الدولية الجديدة في المنطقة وأتاح لها فرصة إعادة رسم خريطتها. لم تستوعب مجمل دول المنطقة بعد تبدّلات الواقع الدولي وما يفرضه من إكراهات ومخاطر تجيب السير قدماً نحو التكتل ونبذ القطرية الضيقة، وهو ما يدفع إلى التساؤل حول مدى قدرة الجامعة العربية باعتبارها من أقدم التنظيمات الإقليمية والدولية؛ على مواكبة هذه التحولات في أبعادها الإقليمية والدولية في المرحلة الراهنة.. تأسست الجامعة في الثاني والعشرين من شهر مارس/ آذار لسنة 1945؛ في ظروف دولية وعربية صعبة، فكانت بمثابة هيئة تسعى لضمان احترام سيادة واستقلال الدول الأعضاء، وإطار عام للنظام الإقليمي العربي. وفي الوقت الذي حققت فيه مجموعة من الدول إنجازات اقتصادية واجتماعية وسياسية كبرى؛ في كل من أوروبا (الاتحاد الأوروبي) وأمريكا (الأنديز) وآسيا (النمور الآسيوية)، وراكمت تجارب رائدة ومتميزة في مجال التعاون والتكتل، فإن دول المنطقة وعلى الرغم من الإمكانات البشرية والموضوعية المتاحة، فشلت في بناء تنظيم إقليمي قوي قادر على رفع التحديات الداخلية والخارجية؛ ما جعلها ضمن أكثر الأنظمة الإقليمية عرضة للتأثر السلبي بالتحولات الدولية التي أفرزها رحيل الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة. وأمام ضعف التنسيق العربي ومحدودية التعاون الاقتصادي والتجاري والعسكري بين دول المنطقة، كان من الطبيعي أن تظل مجموعة من الخلافات السياسية والحدودية البينية مطروحة، وأن تتزايد التدخلات الدولية بشتى أشكالها في العديد من الأقطار، تحت ذرائع ومبررات مختلفة، فمن تداعيات حرب الخليج الثانية، إلى التدخل في الصومال، ثم فرض حصار طويل على ليبيا بسبب قضية لوكربي، والاعتداء على السودان، مروراً بتنامي العمليات الإسرائيلية العسكرية الوحشية على الأراضي العربية المحتلة بفلسطين والتنكر للاتفاقات المبرمة. أسهم تسارع الأحداث الدولية خلال العقود الأخيرة في تزايد رغبة عدد من الدول في رفع تحدي التكتل كسبيل لصدّ المخاطر والتحديات الداخلية، أو تلك التي يفرضها المحيط والدولي. وإذا كانت الكثير من دول أوروبا كثّفت من تنسيقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وضحّت بالعديد من عناصر سيادتها في سبيل تقوية وحدتها ضمن إطار الاتحاد الأوروبي، فإن جامعة الدول العربية وعلى الرغم من ولادتها المبكرة قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي نفسه، ومن الإمكانات والمقومات الهائلة المتوافرة، ما زالت تقبع في ركودها، ولم تتمكن بعد من تطوير أدائها، رغم المحطات الحاسمة والمستفزة التي مرت بها المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة. أسهمت عوامل ذاتية وأخرى موضوعية في تكريس القطرية وشلّ هذه المنظمة التي تقوم على التعاون الاختياري، ولا تملك سلطة فوق الدول، فمن تنامي المنازعات والصراعات السياسية والاقتصادية وحتى الشخصية التي تطبع العلاقات العربية البينية، إلى بروز هاجس الزعامة، ثم تفضيل العديد من الدول الاحتماء بمنظمات ومجموعات إقليمية أخرى أكثر تنظيماً وقوة، وصولاً إلى قصور بنود ميثاق الجامعة التي تجعل من تحقق الإجماع في التصويت قاعدة رئيسية لتنفيذ القرارات المتخذة، مما يعرض معظم هذه الأخيرة لعدم التنفيذ، في غياب آلية كفيلة بفرض احترامها من لدن الدول الأعضاء.. وإلى جانب هذه الإكراهات، يبرز عامل آخر يتمثل في عدم وجود تمثيل شعبي في أجهزة هذه المنظمة ومؤسساتها، كما هو الشأن بالبرلمان الأوروبي الذي يحظى بصلاحيات وازنة ضمن مؤسسات الاتحاد. تتحمل الجامعة العربية مسؤولية تاريخية في خضم الإشكالات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تمرّ بها المنطقة في المرحلة الراهنة، حيث يتيح ضعف الجامعة تدخل الكثير من القوى الإقليمية والدولية لرسم مستقبل منطقة لها من المقومات ما يمكن أن يجعلها من ضمن أكثر الأقطار تطوراً واستقراراً. وإذا كان البعض يعزو ما حلّ بالجامعة من خلل وقصور، إلى عوامل تآمرية خارجية، فإن الموضوعية تقتضي الإقرار بأن الخلل ذاتي يرتبط في مجمله بهيكل الجامعة نفسها من جهة، وبمسؤولية الدول الأعضاء من جهة أخرى. إن تجاوز مأزق النظام الإقليمي العربي الراهن، وربح رهان التكتل، يتطلب تجاوز الخلافات البينية الضيقة، وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري وتشجيع الاستثمارات البينية؛ والاستفادة من التجارب الدولية الرائدة في هذا الصدد، كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي انطلق انطلاقة سليمة ومتدرجة تنبهت إلى أهمية التنسيق والتعاون في المجال الاقتصادي. وتشير الممارسة الميدانية إلى أن عالم اليوم بتحدياته المختلفة ومخاطره العابرة للحدود؛ هو عالم التكتلات الكبرى بامتياز. وفي المنطقة العربية يصبح هذا الرهان ضرورة ملحة إذا استحضرنا حجم التكلفة التي يخلفها غياب تنسيق وتعاون بين دول المنطقة في مختلف المجالات، وكذلك التحديات الكبرى التي تواجه المنطقة في هذه المرحلة المفصلية من تاريخها. أضحى تطوير الجامعة العربية مطلباً ضرورياً تمليه التحديات الدولية التي تجعل من التكتلات الكبرى مدخلاً لتحقيق التنمية ووسيلة للاحتماء من المخاطر الخارجية في أبعادها العسكرية والاقتصادية والسياسية.. وهذا أمر ممكن بالنظر إلى الإمكانات المتاحة لدول المنطقة (مقومات تاريخية وجغرافية وبشرية وثقافية وثروات طبيعية..) والتي لم تجتمع لأي تنظيم إقليمي آخر. drisslagrini@yahoo.fr