شعور جامع ينتاب المراقبين في الخليج، بأننا على أعتاب الدخول في مرحلة تاريخية جديدة، فرضتها عوامل؛ منها السياسية، متمثلة في عودة العلاقات الإيرانية - الغربية، وحرب تحرير اليمن، والانهيارات في أرضية الوضع السوري والعراقي التي لا نعلم على أي تضاريس ستستقر.. والعامل الاقتصادي الذي يتركز في معظمه في السوق النفطية ومستقبلها على المديين المتوسط والبعيد، من حيث مكانة البرميل الخليجي في السوق العالمية بعد تطور صناعة الزيت الصخري، وعودة إيران إلى السوق. العامل الثالث الذي أرى أنه الأهم، لأنه يدب دبيب النمل الأبيض في الخشب، هو غياب الرؤية في التعليم. سأقول باختصار ثم أفصّل؛ التعليم في دول الخليج في خطر. هذا ليس تخمينًا، هذا واقع، يثبته تواضع المخرجات البشرية والعائد الاقتصادي الضعيف، فإن لم يكن الخريج ذا كفاءة، ولم يضف التعليم رقمًا للاقتصاد الوطني، فهذا تعليم بدائي في أحسن الأحوال، وأميّة في حقيقته. وحتى النسبية في التدهور ما بين دولة وأخرى أو مؤسسة تعليمية وأخرى داخل الدولة نفسها، لا تخرجها من دائرة التأخر. وقد كُتب الكثير حول مشكلات التعليم، إنما ونحن نعيش نقطة تحول تاريخية في الإقليم تنعكس على البيت الخليجي، فعلينا أن نأخذ التعليم ليس لأنه عماد التنمية فحسب، بل لحتمية أنه لقاح الأوبئة الفكرية، والضمانة الفعلية لمستقبل الدولة الأمني والاجتماعي. ومهما كانت التحديات الخارجية، التي مررنا بكثير منها خلال 50 عامًا وتجاوزناها، فلن تكون كتحدي خلقِ مجتمعٍ متنور، لأن الفشل في ذلك سيعني نتيجة واحدة، هي أن نظل ساكنين في عالم يتحرك من حولنا، سنكون تاريخًا في زمن المستقبل. للتو انتهيت من قراءة كتاب «التعليم العالي في السعودية - تقليدية يعززها ولع بالتكنولوجيا والأعمال»، لمؤلفه نعيمان عثمان، عن دار «جداول». الكتاب نقدي بشكل لاذع، تستطيع أن تشتم من أوراقه رائحة الحنق. ومن حسن حظي أني كنت شاهدة على الحقبة التي فندها الكاتب، ولي فيما ورد ملاحظات لا يتسع المقام لطرحها، إنما الميّزة التي لا أجادل فيها أن الكتاب ظهر في هذا التوقيت الحساس مستعرضًا معظم الأفكار التي دارت في خلد الأكاديميين حول العالم، عن نظام التعليم العالي الأكثر نجاحًا والأعلى جدارة. المؤلف ركز في نقده على الأعوام الستة الأخيرة للتعليم العالي في المملكة. وحسنًا فعل، لأنها بحق حقبة تستحق التحليل والتقييم والمراجعة لما اعتراها من تغير كبير طرأ في أسلوب الإدارة الأكاديمية، خاصة ما يتعلق بالانفتاح على النظم الأميركية والأوروبية الخاصة بمعايير الجودة في التدريس والبحث العلمي، وهو ما تصدرته بشكل لافت جامعة الملك سعود التي خصها المؤلف بفصل كامل. أيضًا من ضمن أهم ما وضع تحت المجهر، كتاب وزارة التعليم العالي «سابقًا»، المتعلق بإنجازاتها، حيث احتل الصدارة في النقد والتحليل. كما استعان باقتباسات لآراء كثير من الأكاديميين محليًا وخارجيًا حول أهم النقاط الجدلية التي تمثلت في نظام حوكمة الجامعات، والتصنيفات العالمية، واقتصاد المعرفة، والتعليم الأهلي، وقد ازداد استناده على أقوالهم حتى كدنا لا نعرف إن كان الكاتب يسجل رأيه الشخصي أم يستعرض رؤى الآخرين. ومع تقديري للكتاب ومؤلفه، إلا أن قيمته في نظري ليست في ما طرحه من نقد، بل في مبدأ النقد نفسه، كونه رمى حجرًا في ماء راكد، ودعوني أقل لكم إن أهم مؤشرات التأخر في التعليم أن يكون ماؤه راكدًا. قضية التعليم في أميركا بشكل خاص، إذا كنا نعدّ جامعاتها النموذج المحتذى، هي قضية هائجة، جامحة، لا يتوقف العراك حول معاييرها، ونحن حينما نجعل منها نموذجًا للمحاكاة إنما نجعل أنفسنا في قارب يبحر بلا مجداف. أين نقدنا الذاتي لما أنجزناه ولما أخفقنا فيه؟ لماذا قررنا تجاهل التصنيفات العالمية؟ هل لأن متطلباتها تنوء بها العصبة أولو القوة، أم لأنها لم تضف لنا شيئًا؟ ماذا حل بمشاريع الأوقاف التعليمية، هل نتراجع أم نتقدم؟ هل معايير الجودة تطبق اليوم داخل الفصول الدراسية والمختبرات كما دوّناها على الورق، ونظّرنا حولها في ورشات العمل؟ لماذا لا نطرح فكرة الاستقلال الإداري الجزئي للجامعات عن الوزارة، هل السبب ضعف نظام المحاسبة وبالتالي يُخشى من تشكل مراكز تأثير فيتفشى الفساد المصاحب للتباهي بالاستقلالية، أم ضعف الثقة في تحقق الحوكمة الرشيدة؟ مصطلح «اقتصاد المعرفة» البراق أين وكيف انطفأ؟ هل من المصلحة تقسيم الجامعات إلى بحثية تتطلع إلى السوق والمنتج الاقتصادي وريادة الأعمال، وأخرى للتعليم الأكاديمي المجرد؟ كيف هي علاقة هيئة التدريس والباحثين مع زملائهم في الجامعات الأميركية والأوروبية والآسيوية.. هل الأواصر البحثية حاضرة بما يكفي، أم كدرتها البيروقراطية؟ كم «حصانًا» بلغت قدرة التعليم الأهلي الجامعي؟ كثيرة الأسئلة الجديرة بالبحث والمراجعة، الكتاب لم يقدم لها إجابات رغم نقده وتفنيده، إنما تتضح أهميته في تأكيد أننا نمر بمرحلة انتقالية دقيقة تحتاج لفقهاء التعليم؛ الرواد من ذوي الخبرة والوعي والقدرة على استشراف المستقبل، المنفتحين المتجردين من المنهج الكلاسيكي والآيديولوجيا، ليعيدوا صياغة أهداف التعليم وفقًا للاحتياجات المستقبلية والتحديات الداخلية والخارجية، نحتاج إلى عصف ذهني ونقاش حر، مفتوح، بين المختصين للخروج بخطة عشرية على أقل تقدير، أهم ما ترتكز عليه هي الجرأة في الانفتاح على تجارب إدارية مختلفة، والمراجعة الدورية، والتقييم الشجاع. كيفما نريد أن نكون بعد عشرين عامًا، سيكون تعليمنا اليوم، هذه معادلة رياضية موزونة من طرفين.