شهدت الفترة الأخيرة سلسلة من اللقاءات المصرية - السعودية التي تعكس تحولا نوعيا في طبيعة العلاقات بين البلدين باتجاه نمط أكثر تطورا من أنماط التحالفات الاستراتيجية. وجاءت هذه اللقاءات لتضع حدا لما رددته وسائل إعلام تديرها وتحركها وتمولها جهات ودول معروفة، من حدوث تراجع في مستوى هذه العلاقات بعد تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم. وعبر عن هذا الرئيس عبدالفتاح السيسي حين قال في خطابه أثناء الاحتفال بتخريج دفعة جديدة من الكلية الحربية موجها حديثه إلى ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان: «كان لازم تكون معنا اليوم لنوجه رسالة ليس الى السعودية ومصر فحسب لكن لدول الخليج وللدول العربية وهي لن ترونا إلا معاً». ونتج من هذه التفاعلات صدور «إعلان القاهرة» الذي تضمن تأكيد الجانبين وحرصهما على بذل الجهود الرامية إلى تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعمل معاً على حماية الأمن القومي العربي، ورفض محاولات التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتم الاتفاق على وضع حزمة من الآليات التنفيذية في المجالات التالية: 1 - تطوير التعاون العسكري والعمل على إنشاء القوة العربية المشتركة. 2 - تعزيز التعاون المشترك والاستثمارات في مجالات الطاقة والربط الكهربائي والنقل. 3- تحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين والعمل على جعلهما محوراً رئيساً في حركة التجارة العالمية. 4 - تكثيف الاستثمارات المتبادلة بين السعودية - المصرية، بهدف تدشين مشاريع مشتركة. 5 - تكثيف التعاون السياسي والثقافي والإعلامي بين البلدين لتحقيق الأهداف المرجوة في ضوء المصلحة المشتركة للبلدين والشعبين، ومواجهة التحديات والأخطار التي تفرضها المرحلة الراهنة. 6 - تعيين الحدود البحرية بين البلدين. وأشار الإعلان إلى تطلع الجانبين إلى التنفيذ الكامل لما تقدم في إطار من التواصل المستمر والتنسيق على أعلى المستويات بين البلدين، اللذين يمثلان جناحي الأمة العربية والإسلامية، ويعملان معاً من أجل ضمان تحقيق الأمن القومي العربي والإسلامي واستمرار ازدهارهما. وأعقب صدور هذا الإعلان اتصال بين خادم الحرمين الشريفين والرئيس السيسي أكدا خلاله عزمهما العمل معاً لتنفيذ بنود «إعلان القاهرة» بما يساهم في تحقيق مصلحة الأمة العربية ومن أجل المجابهة المشتركة للمخاطر والتهديدات كافة التي تستهدف أمن واستقرار المنطقة العربية، ووحدة شعوبها والنيْل من مقدراتها. كما أكد الجانبان خلال الاتصال أهمية التنسيق والعمل المشترك على الصعيد الثنائي من أجل تنمية وتطوير العلاقات السياسية والثقافية والإعلامية، وتطوير التعاون في مختلف المجالات، وفي مقدمها مجالات البترول والكهرباء والنقل، بما يساهم في تحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي واتفقا على مواصلة التشاور والتنسيق على الصعيدين الثنائي والإقليمي خلال المرحلة المقبلة. والواقع أن تحليل ما تضمنه «إعلان القاهرة» يوضح الكثير من الأمور المهمة التي يجب التفصيل بشأنها، لعل في هذا ما يوضح حقيقة هذه العلاقات وأسسها الراسخة وآفاقها المستقبلية الواعدة. ويمكن الاشارة الى ما يأتي: 1 – أن الطرفين اختارا الاقتراب الاستراتيجي لعلاقتهما والذي يقوم على أساس أن هناك مصالح استراتيجية متبادلة قائمة ومتطورة تستند إليها هذه العلاقات. 2 – يعطي الطرفان قضية الأمن القومي العربي أولوية خاصة في ظل المعطيات والتحديات الراهنة التي تواجه المنطقة، وهذا أمر طبيعي بخاصة أن التهديدات الأمنية التي تواجههما صارت قائمة بالفعل وليست محتملة كما كان الأمر من قبل. 3 – أن الدولتين أخذتا بمفهوم الأمن القومي الشامل الذي لا يقتصر تحقيقه على الجوانب العسكرية وإنما يشمل كذلك الجوانب الاقتصادية واللوجيستية والاجتماعية والسياسية والإعلامية. 4 – يوضح «إعلان القاهرة» أن الدولتين أخذتا بالنهج التكاملي كأساس لإدارة علاقتهما وهذا التكامل يشمل المجالات كافة، وهو نهج يتلاءم وطبيعة العصر الذي تقوم فيه التفاعلات الدولية في إطار ما يعرف بالاعتماد المتبادل. ويلاحظ أنه في ما يتعلق بحالة العلاقات المصرية السعودية، أن درجة التأثير والتأثر مرتفعة وذات مستويات متعددة، كما أن هذا النهج يرتبط بالخبرة العملية المكتسبة من واقع الممارسة والتي تؤكد نتائجها وجود علاقة ارتباط إيجابية بين التكامل المصري السعودي وتحقيق المصالح والأهداف العربية عموما والوطنية لكلا البلدين. 5 – يوضح النص المنشور للإعلان في صحيفة «الحياة» أول من أمس أن كل بند من البنود وإن دار حول مسألة معينة، إلا أنه تضمن الإشارة إلى نواحٍ تطبيقية معينة، الأمر الذي يؤكد وجود رؤية واتفاق حول الأولويات في كل مسألة من هذه المسائل وما يمكن القيام به بشأنها. فالتعاون العسكري المنشود تضمن الإشارة إلى العمل على إنشاء القوة العربية المشتركة وتعزيز التعاون والاستثمارات المشتركة، أعقبه تحديد للأنشطة ذات الأولوية في هذا المجال وهي الطاقة والربط الكهربي والنقل، وتكثيف الاستثمارات يقوم من خلال المشاريع المشتركة، وتحقيق التكامل الاقتصادي له هدف واضح ومحدد وهو جعل البلدين محورا في حركة التجارة الدولية. وهو ما يعني مساحة واسعة النطاق من التكامل في الأنشطة المختلفة بين البلدين على ضفتي البحر الأحمر بخاصة بعد افتتاح قناة السويس الجديدة. 6 – تضمن «إعلان القاهرة» النص على أهمية التنفيذ الكامل لما ورد فيه وتحديد واضح للإطار الذي سيجري فيه التنفيذ وهو التواصل المستمر والتنسيق على أعلى المستويات بين البلدين، وهو ما تأكد في شكل واضح وعمليا من خلال الاتصال الهاتفي بين زعيمي البلدين. وبعيدا مما جاء في هذا الإعلان، فإن ما شهدته العلاقات المصرية السعودية من تطورات سريعة خلال الفترة الأخيرة يحمل في طياته العديد من الرسائل المهمة، أبرزها ما يأتي: أ – أنه لا يوجد أي ارتباط بين هذه العلاقات والعلاقة بطرف ثالث أياً كان هذا الطرف، بل ولا يمكن تحليل هذه العلاقات استنادا إلى علاقة أي من الدولتين بطرف ثالث. ب – أن هذه العلاقات تقوم على أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بين الجانبين، ومن ثم فلا يمكن الربط بين تطور هذه العلاقات وأي أحداث آنية، ومن ثم فلا مجال لتحليل هذه العلاقات في إطار الأفكار الضيقة الأفق التي تربط مثلا بين تقديم السعودية لدعم مالي واقتصادي لمصر في ظل ظروف صعبة وموقتة، ومشاركة مصر في «عاصفة الحزم»، وذلك لأن كلا البلدين اتخذ قراره ليس في إطار المقايضة كما حاول البعض في الحالتين، وانما اتخذ قراره لإرتباط، الأمر بمصالحه الاستراتيجية، فالحفاظ على مصر يمثل مصلحة استراتيجية حيوية للسعودية، وحماية الأمن القومي السعودي يمثل مصلحة استراتيجية حيوية لمصر. ج – أن الربط الجائر بين هذه العلاقات والموقف من جماعة الإخوان المسلمين أمر لا محل له، لسبب بسيط وهو أن كلا الدولتين يحترمان مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ويلتزمان به، وإن كان هذا لا يمنع من تبادل وجهات النظر والرأي حول أي من المواضيع ذات الأهمية بالنسبة إليهما. د – أن هناك توافقا بين البلدين حول التعامل مع القضايا محل الاهتمام المشترك كسورية واليمن وليبيا ومكافحة الإرهاب وغيرها، ولا يمنع هذا من قيام كل منهما بتقديم اجتهادات في إطار الهدف العام والمشترك طالما أن هذا يتم بعلم ومعرفة الطرف الآخر وموافقته وفي إطار من التنسيق والتكامل في القيام بالأدوار. و تتلخص الرسالة الأخيرة، في أن هذه العلاقات أخذت مسارا جديدا باتجاه مستوى أعلى من التحالف الاستراتيجي وهو ما يتوافق مع طبائع الأمور والاتجاه العام إلى تطور هذه العلاقات. ويبقي أن نشير إلى أنه على الصعيد الديبلوماسي المهني تؤكد هذه التطورات أننا أمام حركة نشطة للديبلوماسية السعودية ذات قدرة على المبادرة وخفة الحركة، وهو الأمر الذي يتعين على الجماعة العلمية العربية دفعه وتشجيعه والدعوة إلى تبني الديبلوماسية العربية عموماً لهذا النهج. * أكاديمي مصري