كنت قد ختمت المقالة السابقة بسؤال: هل التجديد الديني أمر ممكن؟ وتقصدت الإشارة إليه ليكون موضوع هذه المقالة. وفكرة الموضوع جاءت على خلفية الربط بين ما كشفت عنه نزعات التعصب والتطرف والتوحش من خلل ديني، وبين الحاجة إلى التجديد الديني لمواجهة هذا الخلل ومعالجته، وهذا ما تنبه إليه الكثيرون من داخل الوسط الديني ومن خارجه، الذين تعالت أصواتهم داعية إلى تجديد الخطاب الديني. ولعل المؤرخين لاحقا سيجدون هذه الفترة أنها من الفترات التي يمكن أن يؤرخ لها في تاريخ تطور فكرة التجديد الديني، وذلك مع كثرة وارتفاع الأصوات الداعية إلى هذه الفكرة، وسيؤرخ لها من مدخل نزعة التطرف التي تعاظمت واتسعت، وأفرزت ظاهرة عدت واحدة من أخطر الظواهر التي ظهرت في ساحة العرب والمسلمين من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة والمعاصرة، وهي ظاهرة داعش التي لا تقارن بأية ظاهرة أخرى في تاريخ العرب والمسلمين من ناحية الخطورة والتوحش كما ونوعا. وهذا الربط علة وعلاجا بين نزعة التطرف والتجديد الديني، هو ربط سليم وسهل من ناحية النظر، لكنه صعب ومعقد من ناحية العمل، سهل من ناحية النظر؛ لكون أن هذا الربط لا يحتاج التوصل إليه إلى عناء فكري، ولا إلى جهد نظري زائد على الطاقة، فلا هو غامض أو ملتبس، ولا هو مبهم أو متستر. وصعب من ناحية العمل، فهذا ما دلت عليه وكشفت عنه سيرتنا الطويلة مع قضية التجديد الديني، القضية التي نرغب في الحديث عنها كثيرا، ونجد فيها جاذبية فكرية للجدل والنقاش، لكننا لا نتقدم ولا نخطو خطوات جادة وفعلية من الناحية العملية، إما لأسباب فكرية تجعلنا غير مؤهلين لإنجاز هذا العمل الذي يتطلب تقدما فكريا ناجزا، ومن دونه لا يتحقق فعل التجديد. وإما لأسباب منهجية لها علاقة بطبيعة المنهج وتأخرنا في هذا الشأن، وإما لأسباب موضوعية لها علاقة بطبيعة الواقع القائم الذي لا يوفر أدنى متطلبات التجديد، وإما لأسباب مركبة فكرية ومنهجية، ذاتية وموضوعية، وغيرها. لكن هناك جانب حرج في هذا الربط، ويتحدد في توقف معالجة الخلل الديني المتسبب في انبعاث نزعة التطرف على إنجاز التجديد الديني، وبناء على هذا الربط فإذا لم يتحقق التجديد الديني فلا معالجة ولا تقدم في معالجة هذا الخلل، ومن ثم بقاء هذا الخلل وجعله معلقا إلى أن نتمكن من إنجاز مهمة التجديد الديني، المهمة التي لن يكون أجلها قصير، ولا نعلم متى تحصل، ولا ندري إن كانت ستحصل فعلا أم لا! هذا الحرج سواء سلمنا به أم لم نسلم، لا ينبغي أن يعطل أو يعرقل العمل على معالجة هذا الخلل، ولا أن يسلب منا الإرادة أو يسد علينا الطريق، وإنما ينبغي أن يمثل دافعا إضافيا لتحريك مهمة التجديد الديني، علما أن هذه المهمة لا تنجز في دفعة واحدة، ولا تحصل بطريقة الطفرات السريعة، وإنما هي مسار متصل ومتراكم، والمهم أن نبدأ بهذا المسار وننتظم في حركته. من جانب آخر، فإن هذا الربط فتح علينا الحديث عن قضية التجديد الديني، ونبهنا من جديد إلى هذه القضية التي من الضروري الانشغال بها، وعدم الانصراف عنها، وجعلها في دائرة البحث والنظر الجاد والمعمق، على أمل أن نحرز بعض الخطوات الفعلية التي تقربنا من هذه القضية، وتفتح علينا سبل الولوج إليها، لا أن نبقى نجتر الكلام عنها وحولها، فالكلام عن التجديد ليس تجديدا، ولا يعني أننا بدأنا نتقدم في هذا الدرب. وعندما طرحت السؤال: هل التجديد الديني أمر ممكن؟ تعمدت طرح السؤال بهذه الصيغة الاستفهامية التي تناقش قضية التجديد الديني من جهة هل هي في دائرة الممكن أم لا؟ والمقصود بالممكن هنا ليس من جهة الأصل، وأن التجديد الديني في أصله ليس ممكنا، وإنما من جهة الفعل والإمكان الفعلي بامتلاك القدرة التي تحقق فعل التجديد ولو نسبيا وعلى سبيل التدرج، أي نقل قضية التجديد الديني من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل، فهل من الممكن تحصيل هذه القدرة وتحقيق فعل التجديد؟.