لم تعد السباحة ضرورة يحتكرها القاطنون على ضفاف البحر.. ولم تعد القوارب والمجاديف مصفوفة على السواحل.. لم يعد الموج حصراً على الخليج والبحر الأحمر، ها هي ميزتهما تنزح وتقطع الصحراء لتتلاطم في الشوارع والقفار، ليست معجزة أن تجد مركباً بحرياً في الرياض، وليس من الفانتازيا أن تحكي عن شخص يصطاد الأسماك من نافذة بيته في الملز، ولا شاباً يقفز كغواص مدرب لينقذ الغرقى في مخرج 13، أنفاق المدينة بحيرات، وشوارعها أنهار جارية.. غيم تنادينا له، قرأنا له القصائد، ودعوناه بكامل خشوعنا، جاء خاطفاً فارتبكنا، لم يجد ما وعدناه ولا ما توقعه كسائر بلاد الله، اعتاد أن يلقى الحدائق فاتحة ذراعيها، المظلات حيث يحتمي تحتها العشاق، اعتاد على أن يذهب في طريقه إلى رحم الأرض، بيسر الجداول والأفلاج، ما حسب أن قليله كثير على مدن تدعي أبراجها وتنافس السماء، ولم يفهم كيف ينحبس في برك لا تشتاق له ولا تنتفع به، اعتاد أن يحيي الزرع والناس، اعتاد أن يسمع ضحكاتهم ويمس رقصة أرواحهم، ما أتى ليرعب المارة والعابرين في سياراتهم أبداً. مطر طاف الأرض كلها، لمس حاجة الفقراء ليشربوا، والأغنياء لينعموا بالنظر، مطر طاف بلاداً فقيرة وهميَ عليها ليل نهار، ما أنّت ولا غرقت، صب عليها من غيمه ما يملأ سدود الأرض ووديانها؛ فما تململت منه ولا غصت به، بلاد معدمة صمدت مفاصلها وطلبت مزيداً من بركة السماء، وهنا في بلادنا كأنما هو ابتلاء وامتحان، لا شك أننا نخرج منه كل مرة من الراسبين. أيها الغيم يا زهرة السماء، تفتحي بعيداً، نحن قوم ندعوك ونعدك ولا نفي بما نعد، أيها الغيم «حوالينا ولا علينا». أطفالنا يعودون مبللين بالخوف، مدارسهم تعلن الطوارئ، والشوارع معركة، أرفق بنا يا الله من شرور الفاسدين الناهبين حاضرنا ومستقبل عيالنا. الطوفان يأبى أن يظل هامداً في الأساطير والعبر، يتأبى إلا أن يوفد كتيبة صغيرة، لتستطلع وتختبر عدتنا. أما نحن فلا عداد ولا جيش، منزوعة مدننا من سلاحها، وعارية الصدر ترتجي معجزة بأيدٍ فارغة وضمير مستتر بالنهب. لم تعد رؤوس الجبال منجاة ولا النجود عاصمة عن السيل، أرواح تقبض، بيوت تروع، والفقراء والمساكين تنالهم خطايا ارتكبها متجبرون لا إلًّا ولا ذمة. لا المطر ولا الغيم، بل قُل الفساد هو الطوفان القائم على قدم وساق، ها هو يقتحم الأبواب بيديه ورجليه، أفلا تسبحون!