تحدث الكاتب ويليام إمبسون ذات يوم عن سبعة أنماط من الغموض، وكان يهدف إلى التفريق بين الإبهام الأشبه بكتلة من الفحم والغموض الموحي أو المضيء. لكن ما تحدث عنه إمبسون كان في مجال الأدب الذي يحمل الترميز والإيحاء والتعبير غير المباشر. ولو شاء كاتب آخر أن يتحدث عن أنماط الإبهام في البرامج الحوارية التي تبثها الفضائيات لربما وجد أنها أضعاف تلك المتعلقة بالأدب، ذلك ببساطة لأن منطق إياك أعني واسمعي يا جارة يتحكم بنمط من الحوارات، التي لا يسمع فيها أحد أحداً، لأنه منهمك ومستغرق في تحضير ما يقول، فإذا كان بوقاً للسلطة أو نظام فهو يتوجه إلى مستمع واحد ومرسل إليه واحد ولا يعنيه ملايين المشاهدين إن كان تعدادهم بالفعل كذلك. إننا نشفق على هؤلاء الذين حفظوا عن ظهر قلب ما سيقولون، وهيأوا أجوبة معلبة لأسئلة متوقعة، لكن ما أن يفاجأوا بسؤال غير محسوب حتى يتحول المشهد إلى كوميديا سوداء، لأنها تبكي ولا تضحك، وبمعنى آخر تضحك حتى البكاء! في كل حوار متلفز ثمة اختبار لا للصدق والشجاعة فقط في إبداء الرأي بل في مدى حرية واستقلال الأطراف المتحاورة، فالارتهان في عصرنا تعدد ولم يعد فقط حكراً على نظم سياسية فهو قد يكون لحزب أو مؤسسة أو شركة أو حتى لإعلان، بعد أن أصبح مفهوم السيادة الوطنية من مقتنيات متحف التاريخ السياسي. نشفق على من ينظر إلينا عبر الشاشة بإحدى عينيه وينظر بالأخرى إلى ولي النعمة سواء كان زعيماً أو حزباً، فالجملة هنا تصبح شبه جملة وقد تكون مبتدأ بلا خبر على الإطلاق، لأن منطق إياك أعني واسمعي يا جارة يفرض على الرهينة أن تسترضي الطرف الذي تشعر بالولاء له، لأنها سوف تحاسب آجلاً أو عاجلاً. إن ما يبدو غموضاً أو حتى إبهاماً في بعض المواقف والتحليلات المنسوبة إلى خبراء هو في حقيقته مراوغة، ومحاولة يائسة لإمساك العصا من الوسط كي تحتفظ الرهينة بقليل من ماء الوجه أمام المشاهد أو الزميل وكي تحقق هدفها من استرضاء من تتوجه إليه. هكذا تضيع الحقائق، كما ضاعت صفات الفيل الذي سقط عليه العميان لأن من يدعون الوصل بليلى المريضة في العراق أو سوريا أو فلسطين أو ليبيا أو أي مكان آخر ليس بينهم قيس واحد!