الخبر الجيد أن الرئيس محمد مرسى أوقف تنفيذ قرار رفع الأسعار، أما الخبر السيئ فإنه تقرر إعادة دراسة الموضوع بعد صدور القرار فى استنساخ لفكرة إعلان الحكم ثم إجراء المداولة. أما ما هو أسوأ فإن قرار رفع الأسعار ـ حتى على فرض صوابه ـ كان بمثابة إلقاء كرة من اللهب وسط حريق مشتعل. الأمر الذى يعنى أن الجهة التى أعلنته لم يصل إليها علم بما يجرى فى الشارع المصرى المسكون بالتوتر والاحتقان. ولأننا فيما يبدو صرنا نتابع تنافسا على الأداء الردىء. فقد وجدنا أن الصوت العالى فى الساحة الإعلامية تصيد الواقعة ولم يشغله فى الموضوع سوى أنه دال على الارتباك والعجز فى مؤسسة الرئاسة، ومن ثم عنى كثيرون باستخدام الواقعة للطعن فى أداء الرئيس وفريقه والتشهير بهم، بأكثر من عنايتهم بتحليل الموقف والتفكير فى دواعيه وخياراته. وهو ما يذكرنى بمشهد عبثى عرضته إحدى المسرحيات الكوميدية قبل نحو عشرين عاما، ظهر فيه الممثل الراحل يونس شلبى وهو يزف إلى أفراد أسرته خبرا مفاده أن أباه قد احترق!أفهم أن يتساءل كل معنى بالأمر عن آلية إصدار القرار فى الرئاسة وعن كفاءة المطبخ الرئاسى فى تقدير المآلات والملاءمات السياسية. لكننى أزعم أن القضية الجوهرية التى تستحق أن نتشبث بمناقشتها فى هذه المناسبة هى ملامح وعناصر الرؤية الاقتصادية التى تحكم التعامل مع الأزمة، إذ لم يعد سرا أن الخطوة التى تمت وجرى التراجع عنها جاءت فى سياق الاستجابة لطلبات صندوق النقد الدولى، التى اعتبرها خبراؤه تمهيدا ـ شرطا فى حقيقة الأمر ـ لقبول تقديم القرض الموعود من خلال إجراءات تنفيذية تبدأ الأسبوع القادم.من جانبى أزعم أنها فرصة لفتح بعض الملفات التى تتطلب حوارا جادا. أحدها يتعلق بكفاءة «المطبخ» الذى تعد فيه أمثال تلك القرارات، الذى أحسب أنه يحتاج إلى إعادة نظر شاملة. لكن ما لا يقل أهمية عن ذلك أننا بحاجة لأن نفهم أمورا أخرى ليست واضحة فى الأداء الحكومى بشكل عام، وفى السياسة الاقتصادية بوجه أخص. ولا مفر فى هذا الصدد من الاعتراف بأن ذلك الأداء لا يتسم بالشفافية المرجوة. صحيح أن الرئيس والحكوة دأبا على الحديث عن حدة الأزمة الاقتصادية، لكننا لا نعرف الملامح الحقيقية لتلك الأزمة. كما أننا لا نعرف شيئا عن الحلول المقترحة لتجاوزها. بل إن المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولى تتم بعيدا عن الأعين وبصورة سرية. وهذه السرية مضروبة حتى فى مواجهة الخبراء الاقتصاديين المصريين أنفسهم. ومنهم من صار يتابع تلك المفاوضات من خلال التقارير والتصريحات التى تصدر فى واشنطن، لأنهم لم يعودوا قادرين على تتبعها من القاهرة.ليتنا نستثمر مناسبة تأجيل زيادة الأسعار فى محاولة الإجابة على قائمة الأسئلة الحائرة التى يثيرها المشهد الاقتصادى. وهى تتوزع على ثلاث دوائر على النحو التالى:1 ـ هل الاستدانة من صندوق النقد الدولى هى الخيار الوحيد أو الأفضل أمامنا؟ وما هو الثمن الذى ستدفعه مصر من جراء ذلك؟ وهل درست تجارب الدول الأخرى التى استسلمت لنصائح وتوصيات الصندوق؟ ثم إذا لم يكن ذلك هو الخيار الأفضل والأجدى، فما هى الخيارات الأخرى؟2 ـ ما هو الأساس الذى تقوم عليه السياسة الاقتصادية، وإلى أى مدى يترجم ذلك الأساس فكرة العدل الاجتماعى؟ ولماذا تبدو الخطوات التى تم اتخاذها حتى الآن شديدة على الفقراء ومترفقة ومتسامحة مع الأثرياء؟ وهل صحيح أن هناك تيارا ضاغطا على الرئاسة يقاوم الإجراءات الواجب اتخاذها لتحميل الأثرياء مسئوليتهم الوطنية والاجتماعية فى المرحلة الثانية؟ ولماذا اللجوء إلى الحل الأيسر فى مواجهة المشكلة الاقتصادية، المتمثل فى مد الأيدى فى جيوب الناس ومطالبة عناصر الطبقة المتوسطة بتحمل العبء الأكبر لمواجهة الأزمة؟ ولماذا يقدم رفع الأسعار التى تلهب ظهور المواطنين العاديين، على ابتداع طرق أخرى لرفع الإنتاج وتوفير العجز المالى من مصادر أخرى؟3 ـ هل صحيح أن العقل الاقتصادى الذى يفكر لمصر بعد ثورة 25 يناير هو ذاته الذى كان يدير المشهد الاقتصادى فى ظل النظام السابق؟ وهل صحيح أنه لا توجد مشاورات جادة تجرى حول السياسة الاقتصادية، وأن الاجتماعات التى تعقد لهذا الغرض تتم لمجرد استيفاء الشكل وسد الخانة فى حين أن كل شىء يكون معدا سلفا من قبل عناصر المدرسة القديمة التى لم تغير شيئا من طريقة التفكير السائد منذ أربعين عاما؟هذا السيل من الأسئلة تداعى إلى ذهنى حين استمعت إلى ملاحظات بعض خبراء الاقتصاد الذين لديهم الكثير من المتحفظات على ما يجرى، والقليل من الثقة فى جدواه. ولديهم ما لا حصر له من التفاصيل التى تؤيد تحفظاتهم وتبعث على القلق، كما تثير الخوف على المستقبل القريب والبعيد. ولكثرة ما سمعت فى هذا السياق فإننى صرت مقتنعا بأن الأمر إذا استمر على ذلك النحو فإننا لن نكون إلى ثورة مضادة تجهض حلمنا، لأن بعضنا يقوم «بالواجب» وزيادة.* نقلا عن "الشروق" المصرية ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.