حرص المخرج رأفت الميهي الذي شيع عدد من نجوم مصر ومخرجيها جثمانه أمس على أن يكون واحداً من المخرجين العرب الذين اختاروا قالب الفانتازيا والجنوح في الخيال، ليعبر به عن أفكاره، ويتناول عبره الكثير من مشاكل وقضايا المجتمع، خاصة تلك المسكوت عنها. وكان يصنع ذلك بشكل ممتع، من خلال الفانتازيا الكوميدية، وفي الوقت نفسه ليهرب من أي محاذير رقابية. ورغم ذلك لم يفلت من الهجوم وتوجيه الاتهامات التي قادته إلى قفص الاتهام عام 1983، هو والنجم عادل إمام بسبب شخصية حسن سبانخ المحامي في فيلم الأفوكاتو، وحكم عليهما بالسجن لمدة عام، غير أنهما حصلا على البراءة في الاستئناف. هذه المسيرة السينمائية المرتبطة ب الفانتازيا توقفت مساء أمس الأول برحيل المخرج والسيناريست والمنتج رأفت الميهي، بعد صراع شديد وطويل مع المرض، عن عمر ناهز 75 عاماً، إذ كان يعاني منذ مدة طويلة حالة إعياء شديدة، بعد تدهور حالة قلبه. ونقل الراحل إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي بعد إصابته بتضخم في عضلة القلب، فضلاً عن ضعفها وعدم العمل بكفاءة، ما أدى إلى ارتشاح حول القلب، ومياه في الرئتين، الأمر الذي أفقده القدرة على الحركة والكلام، فتدهورت حالته خلال الأيام القليلة الماضية، فنقله الأطباء إلى غرفة الرعاية المركزة، ومنعوا الزيارة عنه منذ الأربعاء الماضي، حتى دخل في غيبوبة فارق على إثرها الحياة. ولد المخرج الراحل في 25 سبتمبر/ أيلول 1940 في محافظة المنوفية، وتخرج في كلية الآداب، قسم اللغة الإنجليزية، ليلتحق بعدها بالمعهد العالي للسينما، ويحصل على دبلوم المعهد في السيناريو عام 1964. وتتلمذ في المعهد على أيدي عدد من كبار المخرجين، أبرزهم صلاح أبو سيف، وكمال الشيخ، ومارس كتابة القصة القصيرة والمقالات السياسية في بداية حياته، وكتب روايتين هما سحر الشرق، والجميلة حتما توافق، وسيناريو فيلم تسجيلي بعنوان حياة جديدة، قبل أن يتجه إلى كتابة سيناريو وحوار العديد من الأفلام المهمة. كتب الميهي أول سيناريو للسينما عام 1966 بعنوان جفت الأمطار، وأكد وجوده كواحد من أمهر كتاب السيناريو، وأصبح أبرز أبناء جيله في هذا المجال، ما أهله ليتعاون مع كبار المخرجين في سبعينيات القرن الماضي، فكتب سيناريو وحوار أفلام غروب وشروق، وشيء في صدري، والحب الذي كان، وغرباء، وأين عقلي؟، والهارب، وعلى من نطلق الرصاص، وقصتين من فيلم أبيض وأسود. لم يكن رأفت الميهي يريد الاكتفاء بالكتابة على الورق، فقد كان يسعى جاهداً ليترجم أفكاره من خلال الكاميرا، حتى استطاع عام 1980 أن يقدم أول أفلامه كمخرج، إضافة إلى كتابته للسيناريو، وهو عيون لا تنام. واستطاع أن يثبت وجوده من أول سيناريو كتبه، أثبت وجوده أيضاً من أول فيلم أخرجه. بالرغم من أن رأفت الميهي أثبت وجوده كمخرج، واستطاع أن يجد له مكاناً مرموقاً بجانب أساتذته وزملائه المخرجين، ورغم لجوئه إلى قالب الفانتازيا، واجه العديد من المشاكل التي جلبتها له أفلامه، بداية منالأفوكاتو ثم للحب قصة أخيرة الذي واجه من خلاله اتهاماً أخطر من مجرد تناوله مهنة المحاماة بشكل ساخر، كما في الأول، أو اتهام بعضهم بالفساد، إذ اتهم وبطلي الفيلم معالي زايد ويحيى الفخراني ومنتجه حسين القلا بالتحريض على الأعمال المنافية. وعلى إثر الاتهام، أحيل الثلاثة إلى نيابة آداب القاهرة، وكل هذا بسبب مشهد عاطفي بين الزوجين في الفيلم نسج ضمن إطار فني هدفه الإبداع وليس الإثارة. وظلت القضية متداولة في المحاكم، ثم انتهت بالبراءة. رغم ذلك، لم يتخل الميهي عن حلمه أو أسلوبه، بل وعن إصراره على مواصلة تناول مثل هذه المشاكل المجتمعية المعقدة المسكوت عنها. مثلاً، تناول من خلال فيلمه السادة الرجال رؤيته للمجتمع الذكوري، وقهر المرأة فيه، ما جعلها تلجأ في فيلمه إلى جراحة لتتحول إلى ذكر، وتهرب من قهر الرجل، ثم تكرر بعد تحولها إلى رجل ممارسة قهر الرجال للمرأة. وبعده قدم في فيلم سمك لبن تمر هندي القهر الواقع على الرجل والمرأة معاً، عندما تقهرهما السلطة بدم بارد، حتى لو كان عن طريق الخطأ. أما في فيلمه سيداتي آنساتي عام 1989، فقدم واحدة من أهم وأخطر القضايا المجتمعية، وهي انقلاب الموازين وتدهور حال الشخص بسبب شروط المجتمع الجديد وسيادة الفهلوة، التي فرضتها سياسة الانفتاح في عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، ما يضطر شاباً حاصلاً على دكتوراه في الطبيعة لأن يعمل طواعية فراشاً في شركة. بسبب أفلامه الثلاثة، هوجم رأفت الميهي هجوماً عنيفاً، ليس فقط لتجرئه على الدخول في هذه المناطق المسكوت عنها، بل أيضاً لجرأة التناول، غير أن ذلك لم يثنه عن مواصلة مشواره وفقاً لرؤيته، فقدم بعدها أفلام قليل من الحب كثير من العنف 1995، وميت فل وتفاحة 1996، وست الستات 1998، وعشان ربنا يحبك وسحر العشق 2000، ثم آخر أفلامه شرم برم عام 2001،الذي لم يتخل في أي منها عن رؤيته ومشروعه التجريبي، وربما كان ذلك هو السبب في أن ينتجها جميعاً، ليتحمل وحده نتيجة تفكيره وإبداعه. المتتبع لأفلام رأفت الميهي يجد أنها تتميز بعنصرين مهمين، الأول هو ذلك التوازن بين عقلانية مركزة تحكم على الأشياء بمنطقها الخاص، والذي يخرج عن المنطق المعتاد للأشياء. وحصل الميهي على العديد من الجوائز، والمثير أن أغلبها كان عن الأفلام التي أثارت ضجة وتسببت في اتهامات عديدة له، إذ نال الأفوكاتو جائزة لجنة التحكيم عام 1985، وحصد للحب قصة أخيرة جائزة خاصة في مهرجان كارلو فيفاري، وحصل قليل من الحب كثير من العنف على الجائزة الأولى وجائزة أفضل سيناريو في المهرجان القومي الخامس للأفلام الروائية سنة 1995، كما حصل على جائزة الهرم الذهبي عن فيلم تفاحة من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1996، وغيرها الكثير من الجوائز. واختار النقاد المصريون فيلمه عيون لا تنام واحداً من أحسن 10 أفلام في تاريخ السينما المصرية، واختارت الفيلم لجنة من عمداء معاهد وأكاديميات السينما في الولايات المتحدة الأمريكية لعرضه في هذه المعاهد كنموذج للسينما المصرية. اتجه المخرج الراحل للتلفزيون مرة واحدة كمخرج وكاتب سيناريو وحوار لمسلسل وكالة عطية المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الراحل خيري شلبي عام 2009، وقدم في العام التالي 2010 فيلم سحر العشق ليتوقف بعده تماماً عن الكتابة والإخراج، ويفتتح أكاديمية خاصة لتعليم فن السينما، غير أن القدر لم يمهله لاستمرار المشروع، إذ بدأت بعدها مباشرة رحلته مع المرض إلى أن فارق الحياة.