وقال ربكم ادعوني أستجب لكم (سورة غافر: الآية 60)، فالدعاء يصل الخلق بالخالق، ويعبر عن إيمان عميق بأن هناك إلهاً قديراً على كل شيء، بيده الأمر كله، يقدم المساعدة لمن يطلبها وفى أي وقت. بابه مفتوح لا يغلق في وجه أحد مهما عظم أو صغر، نلجأ إليه في كل وقت وخصوصاً في الشدة، ولكن كيف يكون الدعاء؟ فالدعاء له آداب وشروط حتى يتحقق، ولن نجد خيراً من الأدعية التي دعا بها الأنبياء، عليهم السلام ربهم، والتي وردت في القرآن الكريم، وفي صحيح سنة المصطفى، صلى الله عليه وسلم. ولقد مرّ الأنبياء بمواقف صعبة لم ينقذهم منها إلا صدق دعائهم، حيث كانت لهم في هذه المواقف أنبل الكلمات وأجمل الألفاظ التي تجسّد حسن التوسل ومناجاة الله وحده، ومن خلال هذه الحلقات نتعرف إلى المواقف التي تعرض لها الأنبياء الكرام وإلى الأدعية التي دعوا بها ونتعلم كيف يكون الدعاء. قال الله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، (آل عمران: 123) تعد غزوة بدر الكبرى أول معركة في الإسلام قامت بين الحق والباطل، ولذلك سميت يوم الفرقان، وعلى الرغم من أن الفارق العددي بين الفريقين يرجح كفة المشركين، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب الدنيوية وأعد عدته للحرب وركن إلى ركن رب العالمين، فكان شديد التضرع والدعاء متوسلاً ملحاً مستمداً النصر من الله.. قافلة عظيمة يقول ابن كثير في كتابه البداية والنهاية، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان صخر بن حرب مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال وتجارة، وفيها ثلاثون رجلاً أو أربعون منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص، وكان في العير ألف بعير تحمل أموال قريش بأسرها إلا حويطب بن عبد العزى فلهذا تخلف عن بدر. ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها، فانتدب الناس فخفف بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة. فتجهز الناس سراعاً، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً. وخرجت قريش، فلم يتخلف من أشرافها أحد. إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة. مجلس استشاري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه للحاق بقافلة قريش، ولكن أبا سفيان استطاع أن يعرف موقع جيش المسلمين ببدر ويحول هو خط سير القافلة نحو الساحل غرباً تاركاً الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار، وبهذا نجا بالقافلة وأرسل رسالة للجيش المكي بهذا المعنى، فهمّ الجيش بالرجوع ولكن فرعون هذه الأمة أبا جهل صدهم عن ذلك، ولكن قبيلة بني زهرة بقيادة الأخنس بن شريق عصوه ورجعوا ولم يشهدوا غزوة بدر. وكان لابد من اللقاء حتى يحسم الأمر ويقول الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد): لم يكن يظن المسلمون أن سير الحرب سيتحول من إغارة على قافلة بحراسة صغيرة إلى صدام مع جيش كبير مسلح يقدر بثلاثة أضعاف جيشهم، فعقد الرسول صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً مع أصحابه ليعرف استعدادهم لمواصلة الحرب المقبلة، وعرض عليهم مستجدات الأمر، وشاورهم في القضية، فقام أبو بكر وعمر و المقداد فتكلموا وأحسنوا، وبينوا أنهم لا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، ولا يعصون له أمراً، فأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر، وقال: أشيروا عليّ أيها الناس. وكان يريد بذلك الأنصار ليتعرف استعدادهم لذلك، فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً، وإنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، ولعل الله يريك مناماً تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر الرسول صلى الله عليه وسلم بما قاله المهاجرون والأنصار، وقال: سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين. انتصار الحق قضى الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة في الصلاة والدعاء والتبتل والتضرع لله، ووقف صلى الله عليه وسلم ينظم الصفوف ويدعو ويقول: اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم هذه قريش جاءت بخيلها ورجلها تحادك وتحاد رسولك. ونظر إلى أصحابه وقال: اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم عالة فاحملهم ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لاتُعبد في الأرض. وكان النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو الله ويجأر إليه ويبالغ في رفع يده مستسلماً لربه تبارك وتعالى حتى سقط البُردُ من على منكبه، فأخذ أبو بكر بمنكبيه وقال: يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك ، فإنه منجز لك ما وعد. ويأتي القبول ويبعث رب العزة المدد والعون فأوحى الله إلى ملائكته. أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ، (سورة الأنفال: الآية 21)، وأوحى إلى رسوله: أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ، (سورةالأنفال: الآية 9)، أي أنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضاً ولا يأتون دفعة واحدة. وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثَنَاياه النَّقْعُ أي الغبار وفي رواية ابن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، وعلى ثناياه النقع. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، (سورة القمر: الآية ٥٤)، ثم أخذ حَفْنَةً من الحَصْبَاء، فاستقبل بها قريشاً وقال: (شاهت الوجوه) ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفي ذلك أنزل الله وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، (سورة الأنفال: الآية ٧١). انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمشركين، وبفتح مبين للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار،أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة حيث قتل منهم سبعون، وأسر سبعون.