يثير المستعرب كريستيان لوشون الدهشة حين يقول إن العربية هي اليوم لغة أوروبية. إن هناك 40 مليون مهاجر يتحدثون بها في أوروبا، وهذا الفرنسي العاشق للغتنا يعرف أن 2500 مفردة عربية في العلم والدين والفلك والطب، انتقلت إلى لغة بلاده وإلى لغات البلاد المجاورة والقريبة، مثل إسبانيا وإيطاليا. ويقول إن هناك مغارة تسمى «بيتاغرام» تقع في بلدة «لورد» الفرنسية التي تحتضن مزارا للسيدة العذراء يقصده ستة ملايين شخص كل عام، وهي تسمية مشتقة من «بيت الحرم». لوشون، المحاضر في معهد «الغزالي» لإعداد الأئمة في باريس، عاش فترات طويلة من حياته مدرسا وأستاذا للترجمة ومستشارا ثقافيا في عدد من الدول العربية. لكن الذكرى الأطيب التي يحتفظ، ويفتخر بها، تعود إلى سبعينات القرن الماضي، حين كان «الخواجا» أو الأجنبي الوحيد الذي انتدب للتدريس في كلية البنات بجامعة الأزهر. لقد كان يتصور أن ذلك الصرح هو مدرسة للعلوم الدينية فحسب، فإذا به يصادف روحا حديثة للتعليم. ولما أبدى استغرابه من اختياره، وهو الفرنسي النصراني، للتدريس في جامعة إسلامية، رد عليه شيوخها بحديث الرسول الكريم: «اطلبوا العلم ولو في الصين». يومذاك، كانت الدكتورة زينب راشد هي عميدة الكلية والمرأة الوحيدة بين عمداء الأزهر. وكان معاونها شيخا من الشيوخ. ويحتفظ كريستيان لوشون بصور له مع الأساتذة، أثناء مناقشات رسائل الماجستير للطالبات، ويلفت الانتباه أن الظاهرات في الصور كن حاسرات الرؤوس. لقد أمضى في عمله هناك أربع سنوات تخرجت فيها، على يديه، مترجمات فوريات قديرات أخذن أماكنهن في المؤتمرات الدولية، وبعضهن صرن معيدات وأستاذات، فيما بعد. ولما توفي والده في فرنسا، ذهب زملاؤه من الأساتذة والمشايخ المعممين لتأدية واجب العزاء في القداس الذي جرى في كنيسة القديس يوسف في «باب الحديد». عمل لوشون مستشارا ثقافيا في بغداد الستينات، ثم مديرا للمركز الثقافي الفرنسي فيها. وهناك تعرف على الفنان يوسف العاني الذي اقترح عليه تقديم أول مسرحية باللغة الفرنسية في العراق. ونظرا لعدم وجود ممثلين فرنسيين محترفين في البلد، ارتجل لوشون فرقة مسرحية من الدبلوماسيين، وكان من بين أعضائها السفير البلجيكي والقائم بالأعمال الفرنسي، بالإضافة له. عمل أيضا ملحقا ثقافيا في الخرطوم، وطاف السودان من شماله حتى جنوبه، وتجول في الأرياف، وحضر حفلات الزار، وأنجز دراسات مهمة عن الطرق الصوفية، وعقد صداقات مع مشايخ الختمية والسمانية والقادرية والعباسية والبرهانية. كان الملحق الوحيد الذي ينال وسام «النيلين» الذي يمنح عادة للسفراء. يقول لوشون إن الفرنسي العادي يقرأ في الصحف، كل يوم، كلمات عربية من نوع «آية الله» و«خليفة» و«مجاهدين» و«طالبان» و«أمير» و«فتوى» و«انتفاضة». ولما عرض الفيلم الجزائري «ماسكاراد» في باريس توقف ركاب المترو أمام الملصقات التي كانت تحمل الترجمة العربية للعنوان «مسخرة». ولرفع الدهشة وتعريف الفرنسيين بمعاني الحضور العربي بينهم، ساهم في كتاب بعنوان «أجدادنا العرب»، صدر عن معهد العالم العربي في باريس وأثار ضجة في حينه. أتذكر الرجل مع اقتراب الاحتفال السنوي باليوم العالمي للغة العربية في اليونيسكو. إنه أحد الأصوات المهمة الحاضرة في هذه المناسبة. فكم يبدو كريستيان لوشون وأمثاله، اليوم، ضرورة في المجتمع الفرنسي الذي ينحدر نحو العنصرية وتنخر فيه الأحزاب المتطرفة مزيدا من العقول، وتقضم الكثير من الأنصار وأصوات الناخبين. إنه ضرورة للفرنسيين من جهة، ولجيل من أبناء المهاجرين من جهة ثانية، يجهل حضارته ولا يعرف سماحة أجداده وينغمس في تطرف مضاد.