كم من الكوارث ترتكب باسم الوطن؟ سألت نفسى هذا السؤال وأنا أطالع مقال لأحد أساتذة القانون نشر فى جريدة الأهرام يوم الأربعاء ١٥ يوليو الجاري بعنوان "تخرق الدساتير ولا تحرق الأوطان". حينما قرأت العنوان شعرت بصدمة لأن الكاتب أستاذ للقانون فى الجامعات المصرية، لكنى دلفت إلى المتن لعل وعسى تكون هناك خدعة! وبعد أن انتهيت من قراءة المقال كاملا عدت لأسأل نفسى، هل حقا سبب نكبات مصر جهل الشعب وفقره كما يردد البعض؟ أشك! ينتهى المقال المذكور كما بدأ فى العنوان بعبارات كتبت بمنتهى الثقة وبلا تردد أو توتر، بحيث نقرأ معا حرفيا الخاتمة كالتالى : "ختاما فإننا نجزم بأنه إذا كانت التشريعات والقوانين تكبل إرادة الشعب، فلتكسر هذه الأغلال، وإذا كانت الدساتير تحول دون بقاء وحياة الدولة ذاتها، فلتخرق هذه الدساتير، ولا تحرق الأوطان" . ليس هناك أى سياق تم اقتطاع هذه الخاتمة منه على الإطلاق، فالخاتمة تتماشى مع كل كلمة فى المقال فى طريق الإدعاء بأن الانتصار لمصلحة الوطن فى حربه على الإرهاب يكون بخرق الدستور والقانون هكذا ببساطة. *** ليست هذه المرة الأولى وبالتأكيد لن تكون الأخيرة التى يتردد فيها هذا الكلام، ولكن طالما وصل الأمر أن يتردد بواسطة بعض أساتذة الجامعات وخاصة لو كانوا أساتذة القانون، فإن الرد يكون حتميا، لا على الشخص، ولكن على الفكرة التى من شأنها أن تزيف وعى أجيال كاملة مازالت تتحسس طريقها نحو فهم العمل العام والوطنى وما بينهما من اشتباكات حول قضايا الأمن القومى والحريات والقوانين والدساتير.. الخ. أولا: نعود إلى ألف باء قانون، ونسأل لماذا وضعت القوانين والدساتير؟ ولماذا خرقها هو عمل مجرم؟ الإجابة بسيطة، مع تعقد المجتمعات وتزايد علاقاتها المتشابكة وتعدد أنشطتها عبر الزمن بين فلاحة وصيد وتعدين وصناعة وتكنولوجيا توازيا مع نشأة الدولة القومية وانهيار عصر الإمبراطوريات والخلافات وظهور الحدود والهويات الوطنية وتطور سلطة الحكم بين تشريع وتنفيذ وقضاء مع تطور أليات صناعة الرأى العام والتواصل الجماهيرى، كان لابد من الانتقال من مرحلة العرف والتقاليد والقوانين المقدسة إلى مرحلة القوانين والدساتير الوضعية لحكم علاقات البشر والدول والأنظمة، ومن هنا جاءت أفرع القوانين المتعددة بين دولى وجنائي ودستورى ..إلخ، بدون هذه القوانين والدساتير تتحول تلك العلاقات إلى صراعات الغاب حيث الانتصار للأقوى، لا للأكثر وطنية ولا للأكثر حكمة، ولكن للأكثر انتهازية وربما سطحية ممن تمكنوا من حيازة عناصر القوة والتأثير لا أكثر ولا أقل، ومن هنا تأتى الانهيارات وحرق الأوطان لا العكس. ثانيا: كيف يتم إذن تشريع الدساتير والقوانين الوضعية؟ فى المجتمعات الحديثة والمتقدمة والتى قطعت شوطا معتبرا من التمدن والتحضر، فإن هذه القوانين والدساتير يجب أن تتمتع بثلاث معايير رئيسية، أن تكون أولا معبرة عن إرادة شعبية، وأن تكون ثانيا مستقلة وأن تكون ثالثا قابلة للتعديل، ومن هنا تأتى القيمة الحقيقة لمفهوم "الوضعية" و"البشرية"، وهى المفاهيم التى ترفضها الجماعات الإرهابية كداعش وأخواتها مثلا بحجة أنها تناطح قوانين "السماء"! ومن عجائب الزمن وسخرية القدر أن نضطر لاستخدام هذا المنطق البسيط ليس فقط فى الرد على الإرهابيين والمغيبين ولكن أيضا للرد علي المدنيين المتعلمين بل وممن يقومون على مهنة التدريس فى الجامعات وتشكيل وعى الأجيال الجديدة بما يحملوه من أمانة العلم! فالقوانين والدساتير الوضعية تعبر عن إرادة الشعب من خلال لجان صياغة الدساتير والمؤسسات التشريعية التى تنوب عن الشعب فى عملية التشريع، ثم إن ذلك يتم في إطار التوازن والفصل بين السلطات، بحيث لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تستأثر بعملية التشريع مثلا، فى حين تقوم الأخيرة بالرقابة على أعمال السلطة التنفيذية وتفصل سلطة القضاء بينهما. ثم ولأنها قوانين وضعية بالأساس فهى لا تدعى إذن القدسية ومن ثم يمكن تعديلها بأساليب وقواعد قانونية ودستورية تحافظ على المعايير الثلاث سالفة الذكر، ومن هنا فالحديث عن "خرق" القوانين والدساتير بدعوى عدم حرق الوطن هو محض تزييف وتدليس علمى منقطع النظير. ثالثا: الدعوى لخرق الدساتير والقوانين إذن ليست مجرد معاداة للتحضر وللتمدن وللعلم، ولكنها دعوى مبطنة لاحتقار الإرادة الشعبية، واعتبار أن أكثر من ٩٨٪ ممن صوتوا للدستور ليس لهم قيمة بدعوى أنهم لا يفقهون فى سبل حماية الوطن، هى دعوى للشمولية وحكم الفرد الأوحد الذى يمتلك وحده دون غيره تعريف حدود المصلحة الوطنية، وهى دعوات تكررت كثيرا فى تاريخ البشرية وانتهت جميعا بلا استثناء واحد بحرق الأوطان وعجلت بانهيارها ودخولها فى غياهب الصراعات والتصفيات المتبادلة. رابعا: الدعوى لخرق الدساتير والقوانين تجنبا لحرق الوطن، هى دعوى للإرهاب، دعوى لهدم الدولة، دعوى لانتشار الفكر العنيف الذى يرى أنه لا قيمة للقوانين والدساتير ولا حتى للدول ولا يعترف بمصطلحات مثل "دولة القانون" أو "دولة العدالة" بحجة أنه لا قانون ولا عدالة، سعيا وراء تأسيس بناء سياسى جديد يتخطى الدول القومية لصالح هويات وهمية وبقوة السلاح وهيبة الدم. خرق الدستور والقانون إذن لن يحمى الوطن، ولكنه سيعطى مزيدا من الدفع لجماعات الإرهاب لاصطياد الحانقين على الدولة والقانون وأوضاع العدالة وتوجيههم نحو الفكر العنيف والعمل الإرهابى ولن يحتاجوا إلى جهدا تأصيليا كبيرا لإقناع الإرهابيين الجدد، فيكفي أن نقدم إليهم هذه المقالة وغيرها من مقالات تهدم الأوطان وتحرقها بدعوى الحفاظ عليها. أخيرا: السبيل الوحيد لحفظ الأوطان من الحرق والانهيار هو الانحياز للعدالة والعمل علي استقلالها وحيادها، ينتصر الوطن بالدستور والقانون لا بخرقهم ولا تعطيلهم ولا الاستئثار بصناعتهم. حينما يسود القانون والعدالة، يمكن حينها فقط أن نحفظ الدماء وأن نفرض الهيبة وأن نحفظ الأمن القومى، الأمر ليس تنظيرا ولا تحيزا لهذه الأيدولوجية أو تلك، وليس تقليدا للغرب المتآمر كما يحلو للبعض أن يردد، ولكن هذا هو أبسط قواعد التحضر والتمدن والتحديث، وغير ذلك رجعية ومقامرة بمصائر الأوطان لصالح مصالح ضيقة لا تعبر إلا عن جماعات وأفراد انتهازيين يتاجرون بأوطانهم لحسابات ضيقة. *** أتعجب ممن يصممون على لوى الحقائق وتزييف العلم وخداع الجماهير وإقناع الناس بأن الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان وسيادة القانون هى سبب الخراب، أين هذه الديمقراطية التى تؤرقكم؟ عامان كاملان بلا سلطة تشريعية، عامان كاملان بدستور مجمد وغير مفعل، عامان كاملان ولا يوجد سوى رجل واحد فى المشهد، عامان كاملان وكل أشكال الانتهاكات ترتكب بدعوى حماية الوطن ومواجهة الإرهاب وحفظ الأمن الوطنى. عامان كاملان وهناك مئات القوانين والتشريعات صدرت بشكل منفرد من السلطة التنفيذية منها قوانين مخجلة وأخرى لا تمت للدستور من قريب ولا بعيد، ورغم كل ذلك مازلتم تصرون أن الأوطان ستحترق بسبب تطبيق الدستور والقانون؟! مازلت أؤمن أن الشعب المصرى أكبر من كل هؤلاء وأنه وبرغم كل الأحاديث عن الفقر والجهل والمرض كأسباب عدم جاهزية مصر للديمقراطية، فإن الشعب أكثر جاهزية بكثير من بعض النخب المتكلسة والمتخاذلة والتى هى فى الواقع السبب الحقيقى فى نكبات وانهيارات الوطن المتتالية، فقط حينما يصمت هؤلاء الانتهازيون أو يستبدلوا، يمكن أن نتحدث عن مستقبل أفصل لبلادنا به تنمية وتقدم وتحضر وتمدن حقيقى، أما الطلاب الذين يجلسون أمام مثل هؤلاء الأساتذة فلا أملك سوى الدعاء لهم بأن يكونوا من الوعى الكافى بحيث يتمكنون من التفرقة بين الدرجة العلمية وبين مصداقية حاملها، وأن يكون لهم مصادر متنوعة للمعرفة والعلم بعيدا عن التسييس الذى طال كل شيء في مصر حتى العلم بكل أسف!