في مثل هذا الشهر رحل الساخر العظيم عزيز نيسين، الذي كان أحد أعمدة القصة العالمية مع تشيكوف وكافكا، وواحداً من أولئك الكتاب والأدباء الذين أثروا بلادهم والعالم في القرن المنصرم. ولد محمد نصرت نيسين في تركيا عام 1915 في جزيرة قرب مدينة اسطنبول واستخدم اسم عزيز نيسين (المستعار) والذي عرف به فيما بعد كنوع من الحماية ضد مطاردات الأمن السياسي في تركيا، حيث حملت كتاباته نقداً لاذعاً للحكومة والمجتمع ونقمة على الكثير من السلوكيات السائدة كالنفاق والنظرة الدونية للمرأة، والجهل والتخلف، وقد استخدم صوراً تمثيلية يصف فيها أمه كضحية لهذا المجتمع كي يبث غضبه على ما يرى من ممارسات لا يقبلها. ورغم أن عمله الأول قد صدر بعد أن تجاوز الأربعين فقد قدم خلال العقود الأربعة التالية أكثر من تسعين مؤلفاً في القصة والرواية والمسرح والشعر، وقد ترجمت إلى ما يزيد على عشرين لغة، وعن بداياته في كتابة الأدب الساخر يقول: منذ طفولتي كان هاجسي أن أكتب ما يدفع الناس للبكاء وفي أحد الأيام أخذت إحدى قصصي إلى مجلة، وبدلاً من بكاء رئيس التحرير لدى قراءتها كما توقعت، بدأ يضحك عاليا ولمدة طويلة حتى سالت الدموع من عينيه، وقال لي حينما تمكن من التقاط أنفاسه: (أحسنت.. هذا رائع، أكتب المزيد منها وأحضرها إلينا). ويتابع نيسين: كان ذلك أشد ما أثار حيرتي، فقرائي يضحكون على أكثر ما يمكن أن يثير البكاء في كتاباتي. وحتى حينما عرفت ككاتب ساخر، لم أكن أعرف معنى هذا الأدب الذي تعلمته من خلال كتابته. غالبا ما أسأل ما هي أسس الأدب الساخر؟ كأني به وصفة أو معادلة.. كل ما يمكنني قوله إن الأدب الساخر هو عمل جاد للغاية. أسهم نيسين في إصدار وتحرير العديد من الصحف التي إما أغلقت من قبل الحكومة أو طرد منها بسبب مقالاته النقدية، واشترك مع الروائي التركي كمال طاهر في تأسيس دار للنشر والتي احترقت وفيها الآف الكتب وسُجل الحريق ضد مجهول. وكان قبل احتراق الدار بأيام قد نشر قصة قصيرة جداً في نصف صفحة، مضمونها أن رجلاً اصطاد سمكة وسارع بها إلى زوجته طالبا منها أن تقليها، لكن الزوجة اعتذرت لعدم وجود زيت، فقال الرجل لها: اشويها.. فاعتذرت الزوجة لعدم وجود فحم، فطلب منها أن تسلقها، فصرخت فيه الزوجة: لا نملك غازاً.. فحمل الرجل السمكة وراح إلى البحر وألقاها فيه، فهتفت السمكة: تعيش الحكومة.. تعيش الحكومة. خلق عزيز نيسين عالماً أدبياً متميزاً، له ملامحه الجمالية الخاصة به، حيث تعتبر قصصه كوميديا إنسانية فريدة لتركيا المعاصرة وهي في حد ذاتها أداة مدهشة للتحليل الإبداعي، كما تخطت مؤلفاته الأدبية حدود الجغرافيا واللغة، ولامست أرواح القراء في بلدان العالم المختلفة.