×
محافظة المنطقة الشرقية

موبايلي تطلق (نقاطي) بحلّة جديدة

صورة الخبر

نيويورك أحمد العلي أَكتُبُ الآن مُنصِتاً إلى موسيقى العرّاب.. أسترخي في الندم، أمام بِركة متخفّفاً من الثياب وأُقلّبُ كتابَ أيّامي.. أُجاوِرُ الغُرفَ التي نِمتُ فيها لليلةٍ واحدة ووعدتها بتكرار الزيارة، أُقلّبُ أسرّتها وأعتذر.. رغبتي في لعِب دَور البطل الذي يعود بعد سنين تعُضُّ أحشائي.. يدخل العالمُ إلى قلبي بهدوء موسيقى التايتانك (تِك، ها هي تدورُ في رأسك).. تبدأ في جسدي اختلاجاتٌ تسيرُ بهدوء، تُعيدُ وَصْلَ نهايات أعصابي التالفة بخلايا جلدي، تغرسها شعرةً شعرة، وأسترخي في الندم، تأخُذُ السُّمرةُ جلدي، وهذه علامةُ العُمر، كَقِلّة النّوم، ونَوبات التذكُّر، وريبورتاج الحِكمَة. منذ قليلٍ فتَح جدي الثلاجة، أخذَ علبة ماءٍ وانصرف. أعرفُ أن جدي كان يُحبُّ من فترة إلى أخرى، كما كان يدخّن فقط في أيّام العيد، أن يستمع إلى غناء الفنان العراقي الريفي داخل حسن. بدأ داخل الغناء كما تبدأ النبوّة في الرّعي والتهويم في الحقول.. واستمرّ معه حتى انتقل إلى إصلاح الزوارق ونقل المسافرين بها. كان يلعبُ بسُبحته ويضربها بكفّيه ويكُرُّها ليذكُر الإيقاع ويخطو في اللحن صحيحاً ويَقِظ الموّال.. اتخذ سُبحَته جزءاً من الآلات الموسيقية التي كانت ترافقه. وإن كان هذا هو الحال، فقد عرفتُ تماماً ما الذي كانت تعنيه سُبحة جدي الخضراء؛ حُبّه، مِزاجه، رَبّه ودولابُ أيّامه، كان يفركها جيداً ويشمها، ولا أدري ما المكنونُ فيها سوى التماعاتٍ أراها في الخرز وفي رقرقة عينيه. عندما وجدتُه ميتاً في غرفة المستشفى، فتّشتُ فوراً كفّيه لأعرف من سُبحته ما الذي جرى في غيابي، لم أجدها، فركتُ عينيّ وحَدَجتُ السّقف: لنتشارك الحكاية مرّة واحدة فقط، لِمَ تسرقها منّي؟ رفعتُ كُلّ ما يُمكن أن يجثم على أرض الغرفة، يَئستُ وجلستُ على كُرسيٍّ بالقرب منه. في قرآنه الشخصي، كان يضعُ لي وحدي صورةً ليحفظني الكلام، ليُبعد عني جنون السائقين ويُكملَ إجابتي في ورق الامتحان، ربما استوحشَت صورتي في ذلك الوقت وسمعت السُّبحةُ عواءها، رُبما أرسلَت إشارةً تشبه إشارة مورس لإنقاذ السفن، وها هي في يدي، خَرَزٌ مُطفَأ ويرفضُ البَوح. أغمضتُ عينيّ فوراً ودخلتُ إلى صدري.. وجهاً لوجهٍ أمام قلبي: كن طفلاً مطيعاً وإلا حبستُك هنا، ستسيرُ إلى جانبي إذا صرتَ لطيفاً. فتحتُ عينيّ في متحف روبن، في قاعة السبحات، في غُرفةٍ سرّيةٍ في بيتي لم أدرِ بوجودها. أرتعشُ، كأنني لم أرَ سُبحاً في حياتي كلها، إذ مَن المجنون الذي يصنعُ سُبحةً من عِظام ثُعبانٍ صغير ويُسبّحُ على عموده الفقري؟ مَن يأخذ قطعاً من عِظام أستاذه الذي يُحب ويصنعُ منها خرزاً؟ أو من يَطحنُ بتلات الورد مازجاً إيّاها بخشب الصندل ليضوع العطرُ إذا فرك سبحته بيدين باردتين؟ سُبحةُ اللؤلؤ يا روبن مكانها الخليج، أمام بيتنا تماماً، وسُبحةُ بذور الأشجار سرقتها من أبها، وماذا عن الغرانيت والذهب والفضة والفيروز وما لا أعرف؟ يمكنُ استخدام كل شيء لصنع السبحة؛ القماش والخشب والأصداف والمعدن والعظام ولحاء الشجر والزهر والرخام وصخور الجبال.. مُذهلٌ ما تحسّسته يدي، مسحورةٌ تلك النقوش على الخرز، من الصين إلى بلاد التبت والهند ومنغوليا وحتى تركيا وأوروبا.. حيطانٌ من السُّبح التي حدثتني بلغاتٍ لا أفهمها، بألوانٍ كثيرة، كثيرةٍ جداً على حدقتي الفقيرة. يحلو لي التخيّل أن حدقتي عدسةُ كاميرا، أَزِن مسافة التحديق لأستطيع التركيز على شيء واحد فقط.. هذه المرّة، بدت لي بعض السُّبح كأنها شكلٌ بشريٌّ مخلوقٌ بمادّةٍ أخرى، كأن الإنسان يصنعُ سُبحته على هيئته ليُقلّبِ نفسه بين كفّيه، سُبحةٌ ترتاحُ على إبهام الكف إذا غزاها النوم، وتشيطُ ويصطكُ خرزها عند الغضب. حسناً، رأسُ المسابيح التي أحببتها يكون كبيراً مثل رأس إنسان، حجرٌ أو معدنٌ أو بذرة، تتدلّى منه خيوطٌ متعددة الألوان والأطوال غالباً، وأسمَيتُ ذلك جديلة الكائن.. على جانبي الرأس تنعقدُ قِطعٌ من أرديةٍ ما (بُردةُ سُعاد مثلاً)، تتدلى إلى جانبها خيوطٌ قصيرةٌ دقيقة وملوّنة تحملُ قطعاً فضيّة مُطعّمة بأحجارٍ كريمة صغيرة مما يجعلها مقوّسة على شكل كتفٍ وذراع، وتدور السبحةُ بعد ذلك لتشكل الجسد. عذّبتني تلك السبح التي تبدو على شكل بَشَر؛ هذه يتدلّى رأسها على كتفها كأنها نائمة، وهذه تمُدُ ذراعيها للأسفل لترفع شيئاً سقط على الأرض، وتلك تنظُرُ للأعلى بأكتافٍ مسترخية في حالة من العتاب والمناجاة.. إنها هنا بأروحها، بعضها يرقُصُ لفرط الزركشة الغجرية، وبعضها يرفعُ إصبعه منذراً من الخراب.. لو كان للألوان منزلٌ تعودُ إليه عندما يهُشّها الليل من شوارعه، فهو هنا، صندوق السُّبَح المبطّن بالقماش والقطن، هنا أغطيتها وهنا تُلاعبُ بعضها حتى تنام. - السُّبح المنغولية لها رأسٌ أشعثُ الشعر، أشعث لدرجة أن يكون أكبر من جسد السبحة نفسه. اشتعالٌ ودفء يشعُر به المُمسكُ بها، وهي هزيلةُ القوام، كأن المرض يأكل جسدها حُبّاً إذ تفكّر بالمجاهيل واكتناه الكون. يغلبُ على سُبح الصين واليابان استخدامُ البذور والأحجار التي على شكل أقراص أو صحون، في ترميزٍ لصحن الشمس، بعكس كور الخرز الممثّلة للكواكب في الثقافات الأخرى. يُقلّبون المجرّة بكفٍّ واحدة، يسيرون في المدارات اللانهائية المعتمة. هكذا آمنوا بأن لكل نوعٍ من الأحجار والمعادن والبذور فائدة واستخداماً؛ سبحةُ الغضب تكونُ سوداء الخرز ويتدلى منها فأسٌ صغير بحجم الأُنملة، يجب ألّا تُرى هذه السبحة أو تُجَسّ من قِبل أحد غير صاحبها، وعليها ألّا تُلامس الأرض نهائياً وتُحفظ في مكانٍ عالٍ. سُبحةُ الحُب الزهريّة تجلبُ حُلو الكلام وبريق العين، سُبحةُ البحر للتأمُّل والاسترخاء، والسبحةُ الحمراء لتركيز الطاقة في الجسد وزيادة «الكارما» للوصول إلى «النيرفانا». - وحيدةً على رأس جبلٍ تنتظرُ الطوفان، سُبَحُ بلاد التيبت البوذية. في أطرافها أجراسٌ صغيرةٌ جداً تُصدر أصواتاً عذبةً في التقليب، في القلق والندم والانتظار، إذ تتعدّد أطوال سبحاتهم من دائرة الرسغ إلى دوائر هائلة تُلبسُ على الرقبة وتزحفُ على الأرض. هم من آمنوا بأن لعظام أساتذتهم الروحانيين قدرات خارقة، وإذ يستخدمونها خرزاً، فإنها تساعدهم على وضع شِراكٍ للحكمة لتجيء كما يجيء النوم، هادئاً ومنقاداً وسهلَ الطّباع. وهم أيضاً من صنعوا من النباتات الطبيّة سُبحاً خضراء نضرة، تعينهم في وحدتهم الجبلية، وحدة النسور، وحدة الحدقة في العين الحزينة. سُبَح الهندوس لا رأس لها، تدورُ بسلاسة في تعبيرٍ عن تناسخ الأرواح وذوبانها، إذ يظنون أن السبحات تستطيعُ التخاطُر، مَن يُمسك في يده سُبحةً فهو في اتصالٍ مع كُل مُمسكي السُّبَح في تلك اللحظة، يرى ما يرون، يشُمُّ ما يشمون ويقومون ويقعدون سويّاً. تكثُرُ على خرزها نقوش الصلوات، تتحسّسُ الأصابعُ وتمُدُ الأعناقُ أناشيدها واحداً تلو الآخر كما تقترحه السبحة. سُبح الأديان السماوية تتشابه في بساطتها، لونها الواحد والرأسُ الطولي، أو لأقُل العُنُق الذي بلا رأس ولا أكتاف، استسلامٌ محضٌ وسَلامٌ هادئ، حنجرةُ الحمامة. اشتهرت المسيحية بصُنع السُّبح من الزهور المدعوكة (روزماري)، واشتهرت بعض فِرَق الإسلام بإيمانها بأن بعض الأحجار الكريمة هي بيوتٌ للجن، بعضها يستدرج الأحلام من مخابئها الجوفيّة وبعضها يستطيع إيقاف الدم في الجرح الراعف. السبحةُ الواحدة فريدةٌ فرادة الوجه، إذ تُعتبر ذوقاً فردياً وتصميماً شخصياً بحتاً، وتدُلُّ على صاحبها كالقصيدة. هكذا لم أخرج من متحف روبن، فتحتُ دولاب السُّبح، استلقيتُ هناك وأغلقتُ على نفسي، وانطلق قلبي مثل كلب الخرائب، يفرك فروه ولا يدري ما يفعل. أكثر من ثُلثي البشر الأحياء الآن يستخدمون السبحة. وأوّلُ ذِكرٍ لها في تاريخنا المعلوم هو في بُرديّ الفراعنة لإحصاء أنفاس الرحمة، وكان ذلك أول استخدامٍ روحانيٍّ لها، ومنها انطلقت للحضارات كافة. قبلها، كان الصيّادُ يصنعُ من أسنان طرائده سُبحةً ليسهُل عليه صَيدُ أشباهها.. وقد تكون السبحة أول أداة إحصائية صنعها الإنسان على الإطلاق، أُمُّ الرياضيات قبل ابتكار الأرقام. كانت لجدتي زهرة غرفة لصناعة السبحات، تجلسُ فاردةً رجليها، طرف الخيط معقود بإبهام قدمها، تشده بإصبعها وتُرسِلُ الخرز واحدةً واحدة لتنزلق على الخيط.. سأصنع سُبحتي يوماً، سيكون خرزها مرايا مكوّرة، تفصلها أحجارٌ كريمةٌ بنفسجية.. سأكتب على الخرز عناوين لنصوصٍ أحبها لمحمد العلي ومحمد الثبيتي وأحمد الملا وأدونيس وسركون بولص وعباس بيضون ومحمود درويش وأمل دنقل، لبدر بن عبدالمحسن ودايم السيف والرحابنة، سأكتب كثيراً، الخيطُ الناظمُ أسود، الرأسُ أشعث الزُّرقة، والكتفان سوداوان مُطعّمانٍ بحبّاتٍ صغيرةٍ من الفيروز والكهرمان المُمسك بالنّحل في قلبه. اصنع سُبحتك الآن، ثُمّ لا تُرِها أحداً.