×
محافظة المنطقة الشرقية

49 بلاغا لهلال الأحساء في يومين

صورة الخبر

ستظل مشكلة البشير مع المحكمة الجنائية الدولية عنوانا لفصل هام من محاولات اقامة قضاء دولي لمكافحة الجرائم ضد الانسانية . ولكن هذا القضاء تتصارع فيه دوافع السياسة مع متطلبات العدالة الجنائية اقرب الي الوضع داخل الدول الديمقراطية . ولكن غلبة السياسة علي القانون هو طابع العلاقات الدولية وغياب القانون في الدول المتخلفة . والمؤكد ان دولة القانون هي اهم روادع ارتكاب هذه الجرائم الخطيرة. ولذلك فان هذه المقالة ليست تعليقا علي حدث عابر بقدر ماهي تحليل للازمة البنيوية للعدالة الجنائية الدولية ، ولذلك لن يكون هذا الحادث هو الاخير مما تحمله لنا الايام مادام البشير في السلطة وما دامت المحكمة عنوانا علي تغول السياسة. خلال حضور الرئيس السودانى عمر البشير للقمة الإفريقية فى جوهانسبرج فى جنوب افريقيا يوم 14 يونيو 2015، فوجئت حكومة جنوب افريقيا بصدور حكم قضائي يامر الحكومة بمنع الرئيس السودانى من مغادرة البلاد لحين البت فى طلب تسليمه تطبيقا لحكم الدائرة الأولى في المحكمة الجنائية الدولية الصادر في مارس عام 2009 بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية ثم جرائم الابادة الجماعية فى اقليم دارفور. وقد اصدرنا في ذلك الوقت كتابا شارحا لهذه القضية عنوانه السودان والمحكمة الجنائية الدولية ، وفي طبعة 2010 اعتبرنا المحكمة اداة لتمزيق السودان تحت ستار معاقبة البشير انتصارا لضحايا دارفور. وقد تسبب حكم المحكمة الوطنية فى حرج دبلوماسى كبير لحكومة جنوب افريقيا التى ينزل الرئيس البشير ضيفا عليها، ولذلك سمحت الحكومة للرئيس بأن يعود إلى السودان، وربما اعتذرت له عن ذلك. هذا الموقف أثار الكثير من المسائل الحساسة والتى تتطلب ايضاحا عاجلا فى هذه المقالة. المسألة الاولى، تتعلق بوظيفة المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها تجسيدا للقضاء الجنائى الدولى. وفكرة المحكمة فكرة نبيلة ورأت النور بعد نضال طويل، لاقامة قضاء جنائي دولي ينازع الدول سيادتها ولذلك تضمن نظامها عددا من الكوابح حتى لا يجور على السيادة القضائية للدول. ولكن المحكمة منذ قيامها عام 2002 سلكت طرقا أثارت الشك حول مصداقيتها، ودفعت إلى الاعتقاد بأنها أداة سياسية بثوب قضائي موجه ضد دول العالم الثالث. والادلة على ذلك كثيرة منها أن معظم القضايا تتعلق بإفريقيا وإن كانت قد بدأت التحقيق المبدئى فى قضيتين تتعلقان بدول أمريكا اللاتينية.)(عدد الدول اللاتينية الاطراف في النظام 27 من اجمالي 123 دولة). والدليل الثانى، ان المحكمة لم تحرك ساكنا عندما قدمت لها العديد من الشكاوى ضد إسرائيل بسبب جرائمها فى غزة وضد الولايات المتحدة وبريطانيا بسبب جرائمهما فى العراق. ولذلك استفزت هذه السوابق افريقيا والعالم العربى. يضاف الي ذلك موقف المحكمة الغامض في جريمة اسرائيل ضد اسطول الحرية التركي المرسل للاغاثة في غزة . من ناحية أخرى فإن تغول مجلس الأمن على أعمال المحكمة جعل طابعها السياسى أوضح من وظيفتها القضائية. لذلك قررت الدول الإفريقية والعربية أن تتحدي المحكمة. فقد قررت الدول العربية فى القمة العربية فى الدوحة عام 2009 مساندة الرئيس البشير ضد المحكمة خاصة وأن الدول العربية عازفة عن الانضمام الي النظام ولم ينضم الا ثلاثة دول هي جيبوتي في 5 ديسمبر 2002 وتونس في 24 يونيو 2011 واخيرا فلسطين في 2 يناير 2015 . أما الاتحاد الإفريقى( عدد الدول الافريقية الاطراف 34) فقد تحدي المحكمة فى مناسبتين هما قضية الرئيس البشير، وقضية رئيس كينيا ونائبه، حيث حققت المحكمة فى تهم الجرائم ضد الانسانية المنسوبة لهما. وقد رفض مجلس الأمن عام 2014 طلبا تقدم به الاتحاد الإفريقى من خلال رواندا ، العضو الإفريقى فى مجلس الأمن ، لكى يستخدم المجلس سلطته المقررة فى نظام المحكمة بموجب المادة 16 وذلك بتأجيل النظر فى القضية بعض الوقت مثلما تقرر للمجلس حق تحريك الدعوى في المادة 13.Referral and deferral وفى قضية البشير، وبصرف النظر عن الافعال المنسوبة إليه، ومن الناحية الاجرائية البحتة ، فقد رأينا خللا خطيرا في نظر القضية واحالتها إلى المحكمة حيث أحالها مجلس الأمن بالقرار رقم 1593 الذى تضمن عيوبا تنزل به إلى مرتبة البطلان.( يرجي الرجوع الي التفاصيل في كتابنا السالف الاشارة اليه). من ناحية أخرى، فان المحكمة قد فسرت المادة 13 أ من نظامها الاساسى تفسيرا يؤكد هيمنة المجلس عليها ، فسلطة المجلس ، في نظرنا ، محصورة في إحالة الدعوى ويفترض أن المحكمة هى التى تحدد مدى اختصاصها الموضوعى والزمنى فيما أحيل اليها، ولكن المحكمة قبلت أن يكون قرار المجلس منشئا لاختصاصها وليس محيلا للملف إلى حوزتها. المسألة الثانية، تتعلق بأثر موقف جنوب افريقيا داخليا ودوليا. من الناحية الداخلية يعتبر موقف حكومة جنوب افريقيا – بلا شك – انتهاكا من السلطة التنفيذية لحكم قضائى، كما يعد انتهاكا لالتزامات جنوب افريقيا بموجب النظام الاساسى للمحكمة الدولية مما يبعث رسالة قوية بأن تسييس المحكمة الجنائية وعدم وجود جهاز تستأنف امامه احكامها يقابله عدم التزام الدول بنظامها وبأحكامها مما يسئ إلى سلطة القانون الدولى من زاويتين ، الأولى : الصناعة الخاطئة للحكم القضائى ، والثانية الافلات المنبوذ من تنفيذ الحكم مما يهدر الهدف الاساسى من انشاء المحكمة. والمعلوم أن المحكمة الدولية تخاطب الحكومة بشأن تنفيذ احكامها ولا تخاطب المحاكم الوطنية . ويبدو لنا أن المحاكم الوطنية غير مختصة ولائيا بذلك، لأن قطاع السياسة الخارجية محجوز بالكامل لسلطة رئيس الدولة والحكومة. ولكن يبدو أن رئيس جنوب افريقيا قد انتهك الدستور الوطنى الذى يؤكد على الفصل بين السلطات كما يؤكد على احترام احكام القضاء . وكان يتعين على الحكومة فى جنوب افريقيا أن تلجأ إلى القضاء لابطال الحكم القضائى وليس امتهان القضاء حتى لو كان الحكم خاطئا. وعلى كل حال ، فأن صدور الحكم يدل على استقلال القضاء فى مواجهة الحكومة فى جنوب افريقيا. المسألة الثالثة، تتعلق بالاخطاء القانونيونية التى وقعت فيها المحكمة الجنائية الدولية وخاصة أنها تفسر المادة 27 من نظامها تفسيرا يتناقض مع مصادر الأحكام فى المحكمة وأهمها القانون الدولى. فإذا كانت المادة 27 من نظام روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية تقضى فى نظر المحكمة باعتقال الرؤساء المتهمين وهم فى السلطة، فأن ذلك يتناقض مع مبدأ الحصانة القضائية لرئيس الدولة ووزير الخارجية حسبما قضت محكمة العدل الدولية عام 2000 لصالح الكونغو ضد بلجيكا بشأن طلب بلجيكا اعتقال وزير خارجية الكونغو المتهم بارتكاب جرائم ضد الانسانية. فيكون التوفيق بين نظام المحكمة وبين القانون الدولى الذى يجسده حكم محكمة العدل الدولية هو أن المادة 27 لا تنطبق على رؤساء الدول الا بعد تركهم لمناصبهم. ومعنى ذلك أن رئيس جنوب افريقيا قد انتهك نظام روما وفقا لتفسير المحكمة الجنائية الدولية ولكنه احترم القانون الدولى وفقا لحكم محكمة العدل الدولية، وهذه مفارقة كبيرة أن تخالف المحكمة الجنائية الدولية التفسير الذى وضعته محكمة العدل الدولية، ويؤدى ذلك الخلل إلى بطلان أحكام المحكمة الجنائية بالقبض على رؤساء الدول . ولكن للأسف لا توجد سلطة قضائية دولية تقرر هذا البطلان صراحة خاصة وأنه لا علاقة رسمية بين المحكمة الجنائية وبين الأمم المتحدة، وأن محكمة العدل الدولية هى وحدها المختصة ببيان حالة القانون الدولى وقت نظر النزاع أو طلب الرأى الاستشارى، بصرف النظر عن اتفاق الفقه الدولى مع احكام هذه المحكمة أو اختلافه معها. والسؤال الذى يجب الالتفات إليه كيف يمكن المحافظة على هيبة المحكمة الجنائية الدولية ؟ ومن يملك توجيه قضاتها إلى التطبيق السليم إلى نظامها، والتوافق بين عملها وبين احكام القانون الدولى حتى تستقيم العدالة الدولية فى شقيها الجنائى والمدنى؟!. فلو افترضنا أن جنوب افريقيا اعتقلت الرئيس البشير وقدمته إلى المحكمة الجنائية الدولية وحوكم رغم بطلان قرار الاحالة وفساد تفسير المحكمة للمادة 27 من النظام الاساسى، فايهما أكبر ضررا لهيكل العلاقات الدولية والقانون الدولى: هل تنفيذ حكم المحكمة أم التفسير الصحيح لنظام المحكمة والمحافظة على العلاقات الودية بين جنوب افريقيا والسودان وخاصة أن جنوب افريقيا يمكن أن تلعب دورا هاما فى تسوية مشكلة دارفور. وما جدوى ودلالة موقف الامين العام للامم المتحدة الذى أيد موقف المحكمة الجنائية وطالب باحترام احكامها وايهما أولى بالاحترام النظام الاساسى للمحكمة كما فسرته المحكمة نفسها أم احكام القانون الدولى التى ارستها محكمة العدل الدولية فى قضية الحصانة فى عام 2000 أى قبل أن تبدأ المحكمة الجنائية الدولية عملها الرسمى فى يوليو 2002 ، علما بأن المحكمتين تتجاوران فى مبنى قصر السلام فى مدينة لاهاى الهولندية جنبا إلى جنب مع اكاديمة القانون الدولى.