الزمن عند الإنسان مركب وشاسع، فوجوده منغرس في الحاضر. لكنه، في عودة دائمة نحو ماضيه الذي لا يقطعه حتى جدار الولادة نفسه. بل هو يخترقه وينفذ إلى ما وراءه. أليس الإنسان يجد له لغة ودينا وعادات جاهزة، قادمة من الماضي؟ فهي لم تنجز في حاضره، بل أنجزت له. وهي تسكنه وتشكل له بنيته الثقافية التي لن يقدر على الفكاك منها. كما أنه، بالإضافة إلى حاضره وماضيه، ينحو إلى المستقبل، ولا يحده في ذلك حتى جدار الموت نفسه. أو ليس الإنسان هو ذلك الكائن الذي يفكر من دون انقطاع في المصير؟ ما دام أنه يدرك جليا كونه متناهيا في الزمن، ولا محالة هالك، فيتساءل عن الحياة التي تسمح له بالخلود ما بعد الموت، الأمر الذي يعني أن المستقبل هاجس طاغ يفرض وجوده على المرء. إذن، نخلص من هذا الكلام، إلى أن المرء، في نهاية المطاف، ما هو إلا لحظة وعي هي الحاضر. وهذا الوعي مشدود إلى الماضي بإحكام، ومجرور إلى المستقبل كانتظار. في هذا المقال، سنركز الاهتمام بالضبط، على المنظومة الحداثية التي هي الإطار الذهني الموجه للتصور الذي يعتمل في عقل كل إنسان معاصر، سواء بوعي أو بلا وعي منه. وسنطرح القضية على الشاكلة التالية: نعلم أن الحداثة كرؤية للعالم، ستنحاز إلى الزمن الحاضر. فهو زمن تحقيق الكينونة الإنسانية الفردية بامتياز. أما الماضي والمستقبل، فهما، من وجهة نظر هذه الرؤية، يهدران هذا الاستحقاق الوجودي. فكيف ذلك؟ ما هي مبررات هذا الانحياز؟ وما هو الزمن الذي يمكن من خلاله تحقيق المعنى وإضفاء القيمة على الوجود الإنساني؟ بعبارة أخرى، ما هو زمن الخلاص عند الإنسان؟ هل هو في الحاضر أم في الماضي أم في المستقبل؟ تصور معي أننا جئنا بشخص وطرحنا عليه الأبعاد الثلاثة للزمن، أقصد الماضي والحاضر والمستقبل، وسألناه: أي واحد من هذا التقسيم يستحق أن تعيش باسمه؟ فيمكنه أن يجيب، إذا ما فكر بشكل جيد، وفق الاحتمالات التالية: أولها، سأفضل الإقامة في الحاضر، لأنه مضمون ونملكه حقا ويمكن التحكم فيه. لكنه سيستدرك قائلا: «ولكن للأسف الزمن الحاضر سريع التلاشي والزوال، إذ كل حاضر يصبح للتو ماضيا؟». أما الاحتمال الثاني، فيتمثل في جوابه بأن يختار العيش للماضي، بما هو بؤرة للحنين والذكريات الصانعة للهوية. لكنه سيستدرك، أيضا، بقوله: «للأسف، الماضي ولى وانقطع؟». أما الاحتمال الثالث، فهو قرار العيش للمستقبل، على أساس أنه هو ما ننشد. فهو الأمل الذي لولاه لضاقت الحياة بالإنسان. ولكنه سيستدرك بحسرة، قائلا: «إن المستقبل مجهول وغير أكيد، ولا أحد يضمن أن الشمس ستشرق غدا؟». يبدو انطلاقا من هذا المثال الافتراضي، أننا بصدد مفارقة صعبة الحل. فأي اختيار له إيجابياته، لكن له نواقصه أيضا. ولن يعتقد أحدنا أن هذا السؤال المؤرق هو مجرد ترف أو تمضية وقت، فالأمر حاسم في تشكيل نمطية العيش الذي نرضاه لأنفسنا. فإن تختار الزمن الماضي فأنت تقتل حاضرك بل وجودك الحقيقي، فالحاضر هو لحظة كل ذات بامتياز، وأن تعيش باسم المستقبل فأنت تتصرف وكأنك على علم بما سيحدث وهذا طمع في غير مطمع، لكن أن تعيش باسم الحاضر دون بوصلة الماضي والمستقبل فقد يجعلك في توهان وضياع وهو ما يحدث عندما لا يستفيد المرء من تجارب ماضيه أو يهدر حاضره بطريقة كمية لا كيفية فيؤدي ذلك إلى فشل ذريع في المستقبل. وهو الأمر الذي يهدد سعادتنا. اليونان القديمة والانحياز للحاضر لقد تنبه اليونانيون قديما لهذا الأمر عندما عالجوا مسألة الحياة الطيبة وعلاقتها بالزمن، إذ كان يبدو لهم أن الماضي والمستقبل شران يثقلان حياة الإنسان. فالماضي يمنعنا من الإقامة في الحاضر سواء كان هذا الماضي سعيدا أو شقيا، فهما معا، كابحان للتمتع بالحاضر. أما إذا كانت الذكريات سعيدة فهي تشدنا في شباك الحنين، وأما إذا كانت شقية فهي تغرقنا في الأسف والندم والشعور بالإثم، وأحيانا أخرى بالخجل مما قمنا به. وهذا الماضي سواء في جانبه السعيد أو التعيس، يصرف المرء عن المبادرة ويثبط له عزيمته ويمنعه من اغتنام لحظاته الراهنة ومن ثم وجوده. وبالمثل، يحدث الشيء نفسه عندما يقرر المرء الارتماء في حضن أوهام وخيالات واستيهامات مجرورة هذه المرة نحو المستقبل. إذ يبني المرء قصورا فخمة في ذهنه، الأمر الذي يفرغ الحاضر من قيمته لصالح تخمينات لا ضامن لها. إذن الحنين للماضي هو كالأمل في المستقبل يشوهان الحاضر ويهدران كل إمكانيات الفعالية فيه ومن ثم إضاعة الحياة إلى درجة نصبح معها لا نستحق وجودنا. وهذا ما جعل أحد الرواقيين الكبار وهو سينيك (65 ق.م - 4 ق.م)، يقول إنه من كثرة العيش في الماضي أو في المستقبل، «تعوزنا الحياة». وهو الأمر الذي يعضده قول الشاعر الروماني هوراس (65 ق.م - 8 ق.م): «اقطف اليوم الحاضر، دون أن تتلهى عنه بمشاعر الغم على الآتي من الأيام أو الحنين إلى الماضي». قدمت نظرة اليونان القديمة المدافعة عن الحاضر كزمن لا يجب تبديده باسم الماضي أو المستقبل، أما الآن فإني سأقدم نظرة الحداثة والتي هي أيضا انحياز للحاضر ولكن بمبررات أخرى أعمق فلنذكر بعضها: الحداثة: ندرة الحاضر لقد ألف الباحث عبد الصمد الكباص كتابا شيقا حول هذه المسألة التي نحن بصددها، وسنجعله عمدتنا فيما تبقى من المقال، وهو بعنوان «الفرد، الكونية والله، الحق في الجسد»، وقد صدر عن مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب طبعة 2006. يقول فيه، إن الأسباب التي دفعت الحداثة لأن تجعل من الزمن الحاضر الأساس المعول عليه هو سؤال المعنى. فالحاضر العابر والمتلاشي نادر، والنادر ثمين، لذلك فهو له القيمة العالية. إن الحاضر كتحفة فنية وكتجربة متلاشية ودائمة الانسحاب تجعل الإنسان يحس بالجمال. إن الحاضر لا يعوض، فهو فريد من نوعه، ومن يعِش التكرار فهو يعلن انتصار الموت على الحياة. إن الحداثة تعلن ضرورة إنصاف الحاضر، فهو تحول إلى قيمة في حد ذاته. فهو استحقاق، لذلك وجب الاعتناء به والعمل على تجميله كغاية في ذاته، فالحاضر لا يعاش باسم ماض ولى أو باسم مستقبل مجهول، بل باسم الحاضر نفسه. أي باسم انقضائه وتلاشيه المستمر. فالإنسان يدرك نفسه ككائن يفلت وجوده من بين يديه، وهذا الانفلات كأنه فقدان دائم، لذلك تجد المرء منا يلهث وراء وجوده سريع التبدد. وصلنا الآن إلى أن ندرة الحاضر سبب رئيسي في جعل الحداثة تنحاز إلى الزمن الحاضر. لكن هناك سبب آخر لا يقل أهمية، هو الحرية الإنسانية التي هي أساس من أسس المنظومة الحداثية، فإذا أردت أن أحقق حريتي فهل سأحققها في الماضي؟ فهذا مستحيل لأنه زمن قد انتهى. وهل يمكن أن أعيش حريتي في المستقبل؟ أيضا الجواب بالنفي، لأن المستقبل لا أملكه بيدي. إذن تبقى لنا الحاضر. وعلى الرغم من تلاشيه فهو الحيز الوحيد المتبقي قصد الفعل والإنجاز والإبداع، إذن الحاضر زمن الحرية بامتياز. ففيه أحقق تفردي وخصوصيتي، إنها لحظتي أنا ولا يملكها أحد غيري، فإما أهدرها وأضيعها أو أنجز فيها وجودي بطريقة كيفية ومتميزة فلا أكون نسخة من الآخر فأصنع بذلك هويتي الخالصة. عندما اكتشف الإنسان الحداثي أن الحرية لا تتحقق إلا في الزمن الحاضر، قرر أن يتحمل المسؤولية كاملة، بانفصاله عن المطلقات التي غالبا ما تكون باسم الماضي، ليبدأ بالتشريع لنفسه في كل لحظة، وما دام أن الحاضر يتلاشى فالتشريع يتلاشى أيضا.