بإطلالة استقصائية سريعة على حسابات بعض من يعتبرون أنفسهم مشاهير في تويتر وجدت أن رصيد أغلبهم من التغريدات يتجاوز المائة ألف تغريدة. وهو رقم كبير جداً يعادل مجموعة من الكتب إذا ما تم تنضيد تلك التغريدات داخل سياق نصي. إلا أن المحتوى في معظمه مجرد تعليقات سطحية واقتباسات وإعادة تدوير لأفكار آخرين وشتائم أحياناً. إذ لا ينم ذلك اللغو عن ذات منذورة للحوار أو محبة للتواصل مع البشر. بقدر ما يكشف عن شخصيات عدوانية خاوية وعاجزة عن أداء أي دور. في الوقت الذي تتوهم فيه تلك الذوات الثرثارة أنها تتحاور وتقدم مادة معرفية. ومن يفحص طبيعة الخطاب الذي يتبناه ذلك الفصيل من المغردين فسيجد أنه على درجة من الالتصاق حد الاستنقاع في أمراض الثنائيات الحادة. فهو إما متعصب لطائفة مذهبية أو لفريق رياضي أو حتى لرموز. وكأنه قد قرر أن ينذر وقته وجهده وأعصابه ووعيه للدفاع عن أشخاص وقضايا تكفل له البقاء في مناطق الصراع والسخونة. بمعنى أنه صار عُرضة للاستقطاب إلى هذا الفريق أو ذاك. وذلك هو ما يشجعه على الاستمرار في لعبة المشاحنات واستيلاد الأعداء والخصوم. لأن لعبة الحضور التويتري تعتمد في المقام الأول، بالنسبة لتلك الذهنيات، على مقدار الرغبة والقوة في استفزاز الآخر. هناك فرق كبير بين أن تتحاور مع الآخرين حول الفن والأدب والرياضة وحتى المعتقد الديني، وبين أن تستخف بمعتقدات الآخرين، وتسفّه مزاجهم، وتسخر من ذائقتهم. بدعوى امتلاكك للحقيقة، كل الحقيقة. وافتقارهم إلى المنطق والوعي والأخلاق. إذ لا يمكن لشخص مهما بلغ من المعرفة والمناقبية أن يحتكر قيم الحياة في شخصه. وإذا كان هو على تلك الدرجة من الوعي والإحساس فليتقاسم ما يختزنه في داخله من معارف ومشاعر مع محاوريه، لا أن يستخدم ذخيرته المعرفية والحسّية لقهر الآخرين والتعامل معهم من موقع الضد لدرجة العداء. إن كل من يموضع نفسه في وحل الثنائيات الحادة، فهو إنما يرهن وعيه وأدواته لقوى تراهن بدورها على تغييبه عن الواقع. وتعطيل دوره كإنسان. بمعنى تحويله إلى وقود لمعارك تبدأ ولا تنتهي. وذلك ضمن أجندة باتت معلنة. خصوصاً فيما يتعلق بالصراعات الطائفية. حيث يجد الشخص المستخدم نفسه مدفوعاً داخل معركة لا تحتمل أي شكل من أشكال التهدئة أو التفكير العقلاني. فكلما هاجم الخصوم واستدعى من التاريخ ومن وقائع اللحظة ما يعزز وجهة نظره ارتفع رصيده عند فريقه، وارتفع لديه حسّ الانتقام والتشفي ودحض حجج الآخر. وكلما أوغل في دك حصون الخصوم زادت جماهيريته واستشعر نجومية الفارس المدافع عن قبيلته. لدرجة أن الحماسة قد تأخذه إلى حافة الخصام من أجل الخصام وليس من أجل الحقيقة. حيث تتطلب اللعبة ألا يتوقف عن المجابهة وألا يكف عن الكتابة اليومية بل اللحظية لإيقاف مد من بات يصنفهم في خانة الأعداء. وهكذا يراكم التغريدات الساذجة داخل معجم ضخم من العبث اللغوي والفكري. ليضع كل ذلك تحت عناوين مضلّلة كالحوار والتنوير والتواصل والتفاعل. وهي- أي تغريداته- ليست في ذلك من شيء. إنما هي ثرثرة فارغة لا يمكن بمقتضاها تهجي الف باء الحياة. على هذا الأساس يتأسس الجهاز المفاهيمي للمغرد الثرثار. الذي يعتقد أنه يقود كتائب الدفاع عن الحقيقة فيما هو يقاد إلى مستنقع الثنائيات الآسن. وهذا التكلّس لا يقتصر على من يوصفون بالمحافظين أو المتشددين وحسب. بل يشمل جميع المتفاعلين في تويتر. بما في ذلك فصيل طويل من المتمسحين بالليبرالية. حيث يثبت كل أولئك قدرتهم العجيبة على إعادة اجترار القضايا المستهلكة، ومثلنة الخصوم في قوالب جامدة. والإصرار على عدم مغادرة مواقعهم الفكرية أو الأخلاقية. لأن إبداء أي مرونة أو تفهّم لخطاب الآخر يعني، من وجهة نظرهم الإقرار بالهزيمة، وبالتالي خسران القاعدة الجماهيرية التي تطالب بعدم إيقاف المعركة إلا بإفناء الآخر. يزعم هؤلاء الذين تفيض قرائحهم بالكلام الساذج أن كثافة الحضور من خلال الإكثار من التغريدات الهجائية السجالية هو الكفيل بصناعة نجوميتهم. وهو الأمر الذي يجعلهم عرضة للوقوع ضحايا لمرادات واشتراطات ودلع القارئ النسقي. الذي يجيد بعصابيته وهتافاته الصاخبة صناعة الكاتب التويتري الذي يلائم مزاجه. كما يجيد تشييد الجهاز المفاهيمي للكاتب الثرثار حسب متطلباته. وبذلك يتحول النجم إلى رهينة تعيش خديعة قيادة الجماهير في معركة مقدسة. حيث يتخلى عن كل ما يتعلق بالخير والفن والأدب والجمال ليتحرك في هامش الثنائيات متوهماً أن ما يؤديه يصب في حقل الإنتاج المعرفي. فيما يكشف ركام تغريداته عن ذات مستلبة مخدوعة خاوية إلا من الرغبة في التدمير الدرامي للذات وإفناء الآخر. ناقد