< تقضي التوازنات الدولية الأخيرة بأن تكون لك أذرع حديدية، تستطيع بها الضرب بقوة، أو التلويح بها ولو عن بعد لكل الأعداء المتربصين، وحتى المحتملين متى لزم الأمر. وأثبتت التجارب المتضمنة في علاقات الدول السياسية واللغة الدبلوماسية، أن احترام الآخر ليس مبعثه حسن النوايا ولا السلوكيات الناعمة في التعامل، إذ يبدو هذا أمام ما يقبع داخل الدوائر السياسية المغلقة ضرباً من الغباء، ولقد تبدت هذه المعادلة بشكل واضح من خلال الممارسات السياسية المكشوفة، حتى من تلك القوى العالمية، التي كانت تعتمد في سياساتها الخارجية لاسيما مع أصدقائها على ثوابت ومرجعيات لم تكن لتحيد عنها قيد أنملة، هذا ما كان المسالمون المتطلعون إلى الاستقرار والسكينة يعرفونه، أو بمعنى آخر يصل إليهم من خلال الإعلام وكل المحافل الدولية. الولايات المتحدة، التي بدت أمام العالم صارمة أمام السياسة الإيرانية المراوغة ذات النفس الطويل، نجدها اليوم أكثر اقتراباً إليها من حلفاء الأمس، إذ تغلبت لغة المصالح العليا على أية لغة أخرى بما فيها الصداقة، كيف يمكن للأميركيين أن يصفوا تلك العلاقة التي توثقت عراها مع إيران من خلال المفاوضات الجادة جداً مع عدو الأمس، الذي كان لا يصفه إلا بالشيطان الأكبر، لتنتقل من محور الشر الذي تشاركها فيه كوريا الشمالية إلى محور مستهدف، لتطبيع العلاقات من خلال حوارات ومفاهمات ملتوية، باتت أميركا تخشى ألا تنتهي إلا إلى مزيد من التصعيد، كما حدث مع كوريا الشمالية، التي أعلنت بقوة قدرتها التدميرية في ما لو حاولت أميركا إسقاط نظامها الشيوعي، وكما أفلتت الصين بجدارة من أية هيمنة خارجية، وأصبحت شريكاً مستقلاً في اقتسام العالم، منها تعلم الأميركيون الدرس جيداً، وأن تنامي القوة في أية بقعة من العالم لاسيما «الأشرار» ليس في مصلحتها، لذلك وبلغة دبلوماسية منكسرة قال سيدني سيلر مبعوث الولايات المتحدة في المحادثات السداسية لكوريا الشمالية، نقلاً عن صحيفة «فوكس نيوز» الأميركية: «إنه على بيونغ يانغ أن تتعلم من المفاوضات الناشئة مع طهران»، وأضاف أن واشنطن مستعدة أن تتفاوض مع خصومها إذا كانت هناك صدقية. وبناءً على تجارب المحادثات مع كوريا الشمالية، أدركوا جيداً أن الزمن لن يكون في مصلحتهم في ما لو تعثرت المفاوضات، فإيران وفق المعلومات الموثقة التي أوردها المتخصص في الشؤون الأمنية فرزين نديمي في مقالة له إنها تمتلك بالفعل أكبر ترسانة من الصواريخ الباليستية والصواريخ في منطقة الشرق الأوسط، كما أن الجمهورية الإسلامية طوّرت القدرة الوحيدة في المنطقة على إطلاق الأقمار الاصطناعية إلى جانب إسرائيل. يُذكر أن برنامج الصواريخ الإيرانية متقدم نسبياً وفي طور التقدم، ويشمل كادراً من المهندسين والفنيين الماهرين، الذين يعملون في إطار «منظمة الصناعات الجوية الفضائية» بوزارة الدفاع الإيرانية القوية سياسياً، التي لديها أكثر من 20 شركة تابعة لها منذ عام 1993. ويُعرف «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني بأنه فرع المنظمة الأكثر نشاطاً في مجال التطوير وأكبر المستخدمين النهائيين، ولاسيما منذ ثمانية أعوام عندما أنشأ مركز أبحاث للصواريخ والفضاء الخاص به، لتعزيز أنشطة الصواريخ. تُوفر 24 جامعة - على الأقل - في إيران دورات دراسية في هندسة الطيران المتقدمة، وفي الواقع كما تقوم بإجراء سلسلة من الأبحاث النووية، بهدف امتلاك تكنولوجيا التحكم في اليورانيوم، الذي تمتلك منه كميات في مناجم تشرف عليها المنظمة الإيرانية للطاقة النووية (OIEA)، هذا إضافة إلى المفاعلات النووية التي تم بناؤها بدعم روسي وصيني، استوفى الأميركيون أهم المعلومات المخابراتية عن مكونات المفاعل النووي الإيراني، وإمكان تطوره السريع بدعم خارجي في ما لو أطلق له العنان، مصحوبة بتصورات وسيناريوهات محتملة لمنطقة الخليج، في ما لو فشل الديموقراطيون في مفاوضاتهم الجارية بتباطؤ مع الند الإيراني، لذلك يلوح الأميركيون بالقنبلة النووية التدميرية الهائلة، التي صنعتها تحسباً للفشل المحتمل لهذه المفاوضات، من أجل حماية مصالحها في المنطقة، بغض النظر عن تأثير هذه القنبلة على دول الجوار «الأصدقاء»! بما يوحي بأنهم يهتمون بمقدرات الأرض أكثر من الإنسان. الإنسان الذي يسحق يومياً بكميات هائلة داخل حدود الوطن العربي، من دون أن ينال مكرمة وشفاعة القوة الأميركية الضاربة، والقادرة بكفاءة عالية على إيقاف كل هذا الهدر الإنساني، كما ثبت ذلك عملياً في حرب الخليج الثانية، وما تلاها من عمليات عسكرية من أجل إسقاط نظام صدام حسين، الفرق بين الأميركيين والروس والصينيين، أن الأخيرين يدعمون حلفاءهم ليس بالسلاح فقط، بل بتمتين كفاءتهم العسكرية من خلال البناء والتعليم والتدريب، ليس لأغراض تسويقية ولا من أجل تعبئة الخزائن المالية الكاسدة، بل من أجل الوجود الحقيقي من خلال حلفائها، ومع كل البلايين العربية التي تنفح بها الخزائن الأميركية والأوروبية من أجل الحصول على سلاح رادع، يظل السلاح الإسرائيلي متفوقاً بقدراته الهجومية والدفاعية وتقنياته العالية، هذا إضافة إلى مفاعلها النووي الذي استطاعت به إيقاف الشرق الوسط برمته على قدم واحدة. وها هي إيران اليوم تحاول فرد عضلاتها على الدول العربية، في حين لا تزال أميركا تنتابها المخاوف من مجرد التفكير في رفع كفاءة السلاح العربي، هذه المخاوف التي لم تكن تراودها في مفاوضاتها مع عدو الأمس اللدود (إيران)، التي قد تحسم قريباً بمصادقة نهائية على برنامجها النووي، والعالم العربي يقف بين فكي التهديد الإيراني والداعشي متفرجاً، كنا ننتظر من قمة كامب ديفيد التي جمعت الرئيس أوباما بقادة مجلس التعاون الخليجي أن تفضي إلى اتفاقات مختلفة، تتضمن تأهيلها وبرفع كفاءتها للدفاع عن نفسها، كالإسهام في بناء مفاعلات نووية خاصة بها، ولو من أجل الاستخدامات السلمية. كان تصريح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الأردني ناصر جودة في عمّان الخميس 9 يوليو، عن طبيعة العلاقات الاستراتيجية التي تجمع الرياض بواشنطن معبراً، عندما قال إن السعودية تعتمد على نفسها في الحفاظ على مصالحها. إذ بدا هذا التصريح واقعياً ومبنياً على مستجدات طرأت على الواقع السياسي الذي شق اتجاهات جديدة للسياسة السعودية الخارجية، تلك التي جسدتها زيارة ولي ولي العهد إلى روسيا وأسفرت عن توقيع اتفاق روسي - سعودي للتعاون في مجال استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وعلى تفعيل اللجنة المشتركة للتعاون العسكري، وبما أن السعودية ليست كأية دولة لاعتبارات معروفة، ولأنها اليوم مركز أنظار العالم وعمود توازن الأمة العربية، ومحط اهتمام بالغ لما اتسمت به سياستها أخيراً من قرارات حازمة منفتحة على كل الاحتمالات، ستعمل جاهدة من أجل خلق توازنات تعبر عنها وتدعمها بشكل حقيقي، منها المضي حثيثاً في مساعيها الرامية إلى بناء مفاعلاتها النووية كما تضمنه الاتفاق الروسي - السعودي، ومنها العمل على توثيق عرى المصالح متى اقتضى الأمر مع دول قوية أخرى مثل كوريا الجنوبية أو الصين. * كاتب وروائي سعودي. almoziani@