بيروت: مازن مجوز بقامته القصيرة وجسده النحيل الذي ينوء تحت ستة عقود ونيف، أمضى القسم الأكبر منها مسحرا، يقاوم أقدم المسحراتية في صيدا والجنوب، محمد فناس، مع طبلته، عناء التطواف ليلا على البيوت. فقد اعتاد منذ ورث هذه المهنة عن أبيه أن يجول صيدا بيتا بيتا، مناديا قاطني هذه المنازل بأسمائهم. وهو يبدو كمن يصارع من أجل أن تبقى هذه الشخصية التراثية تفرض وجودها وخصوصيتها في شهر رمضان المبارك. في أحياء صيدا القديمة، يتردد صدى صوت طبلته داخل الأزقة التراثية مخترقا سكونها خلال ليالي رمضان.. موقظا أهلها بعبارته الشهيرة «يا نايم.. وحّد الدايم.. رمضان كريم»، منبها الكبار إلى موعد السحور، ومفاجئا الصغار الذين ينتظرونه عبر النوافذ والشرفات مرددين وراءه عباراته. ويقول عميد المسحراتية في صيدا بحسرة عن مهنة أصبحت شبه منقرضة في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «الهواتف التي تشتمل على برامج الآذان والسحور، بما فيها صوت المسحراتي، غزت معظم البيوت، وهذا مؤسف حقا فضلا عن اعتماد الناس على التلفزيون والمنبه للاستيقاظ وقت السحور». خوف لا يحول دون سعادة فناس الكبيرة التي تعتريه عندما يقوم أحد من الفتية أو الشباب بتسجيل صوته أو تصويره بالفيديو، وإرسال صوره وصوته عبر هواتفهم الذكية إلى أهلهم وأصدقائهم في الخارج. وفي ذلك يوضح: «تغير الزمان والناس على حد سواء، لكن هذه المهنة لم تتغير، وإنما بدأت تندثر.. ورزق الله على رمضان زمان، وعلى مسحراتية زمان..»، مؤكدا أن ما يجعله متمسكا بالتطبيل في رمضان هو المحافظة على تقاليد هذا الشهر. ينطلق فناس بدءا من الثانية فجرا، حاملا طبلته وفانوسه المضيء، مرتديا جلبابه التركي ومزنرا خصره بقطعة قماش تسمى «الشملة»، ومعتمرا قبعة ومنتعلا حذاء رياضيا يخفف عن قدميه وطأة المشي لساعتين فجر كل يوم من أيام الشهر الفضيل. ومن المعروف أن المسحراتي لا يطلب أجرا، بل هو يقوم بمهنته بشكل تطوعي، إلا أن أرباب البيوت يجودون عليه بـ«العيدية» في الأيام الأخيرة من الشهر الفضيل. و«العيدية» هي عبارة عن ملابس وزكاة الفطر وبعض المال، إلا أن هذه الصورة تنقرض تدريجيا بسبب تراجع حاجة الناس لخدمات المسحراتي. والمسحراتي إلى جانب الحكواتي وصانع الجلاب والتفاح المحلى يشكلون صورة لا يكتمل شهر رمضان الفضيل من دونها، وهي أصبحت اليوم جزءا من التراث الرمضاني لا أكثر. وبالتالي لم يعد للمسحراتي الذي ينشد الأناشيد الدينية ويرتل الأدعية دور رئيس، كما كان عليه الحال قبل عقود من الزمن، بل أصبح يؤدي دورا هو أقرب إلى «الكومبارس» في الأفلام. وهذا الدور لا يتجاوز مجرد المحافظة على تقاليد متبعة في بعض المناطق، إذ إن تطور أنماط الحياة المفروضة أدى إلى الاستغناء عن المسحراتي في إيقاظ النائمين. والدليل على ذلك، نجد أن بعضا من الجيل الجديد غير قلق من اختفاء هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر التقليدية. فالمنبه كفيل بإيقاظ النائمين، كما أن معظم الناس اليوم يمضون أوقاتهم في السهر حتى السحور، لأن الخيارات أمامهم كثيرة ومنها الأسواق والمراكز التجارية المفتوحة طيلة الليل تقدم العروض والحسومات، وتدفع بالإنسان نحو التسوق الدائم، والخيام الرمضانية التي لا تبخل بعرض فرق العود وتقديم النرجيلة والمأكولات الخفيفة والحلويات المميزة. واللافت اليوم هو أننا بتنا نلاحظ «المسحراتي» على بعض مواقع التواصل الاجتماعي كـ«فيس بوك» وهو يوقظ «الفيس بوكيين» بتغريدة سريعة: «يا نايم وحد الدايم حان وقت السحور». ظاهرة انسحبت أيضا على «واتس آب» و«تويتر» بكثير من العبارات المماثلة، فضلا عن مشاهدتها على شاشة القنوات المحلية عبر المسلسلات الرمضانية المتواصلة، وحتى على أثير كثير من الإذاعات، وكأن رمضان بعد عام سيصبح أيضا فضائيا مع تسارع وتيرة العولمة الإلكترونية. أما ما بقي ممن يواظبون على تقمص هذه الشخصية فهم قلة عشقوا ما يقومون به، ومن هؤلاء حسن بريش (36 سنة) الذي كان يشعر بـ«بهجة لا توصف» عند تجواله في أزقة «حي السرايا» التراثي في النبطية وإيقاظه أبناءه. ويبدي بريش، الذي بدأ يمارس دور المسحراتي مع بعض الأصدقاء بعد وفاة الرجل الذي التزم هذا الواجب حتى مماته، أسفه على اعتماد الناس اليوم على مسحراتي آخر يظهر على التلفزيون وعلى الراديو وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بالقول: «هذه الظواهر سرقت المسحراتي منا على الرغم من الحنين له. ونحن مصرون اليوم على إكمال المشوار، لأننا نفكر بالذين لا يستطيعون الاستيقاظ في فترة السحور لتناوله». وعن نظرته لهذه المهنة يخبرنا بريش: «ما نقوم به واجب أخلاقي واجتماعي لم يفرض علينا بل نحن اخترنا القيام به، وتاليا نحن لسنا بحاجة إلى المال»، ومن هنا كان رفضه كثيرا من العروض المالية، في مقابل ما يقوم به. وما يجدر التوقف عنده الروايات التي تتحدث عن فضائل السحور، فالرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم) قال: «تسحروا ولو بجرع الماء». وختاما، فإن فكرة «المسحراتي» وجدت منذ زمن بعيد في مصر خلال العهد الفاطمي على الأرجح، كون الحاكم بأمره كان يأمر الناس بالنوم باكرا ليستيقظوا عند السحور، كما كان يأمر شخصا بأن يوقظهم فعرف لاحقا باسم «المسحراتي»، الذي صمد حتى يومنا هذا كونه يعد من صلب البرنامج الرمضاني اليومي. وبالتالي هي عادة اجتماعية ألفها الناس واستحبوها، وليست واجبا دينيا. وعلى الرغم من ارتباط فكرة المسحراتي ارتباطا وثيقا بالتقاليد الشعبية ليس في لبنان وحسب، بل في الكثير من البلدان العربية، لا سيما في سوريا ومصر، فإننا بتنا على أبواب خسارة هذه الشخصية الرمضانية لصالح مظاهر العولمة والتطور التكنولوجي.