عزل الشيوعيون العراقيون البعثيين، وجرت بينهما تصفيات ومجازر ومحاكمات المهداوي تلك المسرحية الهزلية، ثم عاد البعثيون ليقوموا بنفس الدور حتى يصبح الجزاء من جنس العمل، وصار تداول السلطات العربية بين القوميين العرب، والأحزاب الانقلابية الأخرى من يسار ويمين حقبة كلفت هذه الأمة الهزائم العسكرية والسياسية، والآن نعود إلى تداول للسلطة تقوده فئات ومنظمات الإسلام السياسي ومعها طروحات المثل العليا والعودة إلى كيان أكبر من الدول، وهذا النموذج ولد لأن الساحة العربية أُفرغت من النموذج الناجح، وجاء استقبال الأفكار حتى بدون التدقيق فيها وإخضاعها للمساءلة والتحليل ومدى تطابقها مع العصر، ليطرح نفس المغريات الفكرية السابقة التي أرادت أن تقدم نفسها بإخلاص المنقذ لتقع في نفس المحظورات وتنتهي بلا أسف عليها.. الأسئلة تُطرح لكنها لا تجد الأجوبة الشاملة وهي هل العرب قادرون على فك طلاسم أساليب الحكم بالقبول بشروط الديمقراطية، والتنازل عن الحق المطلق للفئة والقبيلة والإقليم والقطر، مقابل الحق الوطني العام، وسنّ كل ما يتعلق بتساوي المواطنين، أم أن ذلك يحتاج إلى تأهيل وتدريب عقلي وسلوكي وثقافة واسعة تؤمن بالاقتراع والتصويت الحر، ونسيان إرث الاحتكار والتعالي العرقي، والنظر بمنطق الوطن كمظلة للجميع دون أي ثقافة تبني ذاتها على حساب غيرها بمفهوم الحق التاريخي الذي لا ندري من أعطاه ومن يستحقه؟ الإجابة صعبة ومعقدة، فالقول بأن العربي يستحيل أن يكون ديموقراطياً يعني أن هناك موروثاً جينياً يبعده عن قبول هذه الصيغة من العمل السياسي والتنظيم الاجتماعي، وأن بنية التخلف فيه موروثة يستحيل معها تعديلها بما هو أصيل بها، وهذا منطق يجافي الحقيقة، فقد كان لدول ما بعد الاستعمار نجاح مميز بقبول تلك الأنظمة، لكن لأنها لم تجد الحماية من تطلعات العسكر سقطت بفعل مناقض كرس أسلوب حكمه، وأبقاه موروثاً جديداً يستنسخه أي قادم جديد للكراسي المتقدمة، غير أنه منذ الفاصل الزمني من الأربعينيات التي شهدت تحرر أول بلد عربي، وحتى اليوم، فقد تحررنا شكلاً وبقينا داخل استعمار اقتصادي وفكري وتبعية مطلقة للآخر، أياً كان نظامه اشتراكياً أو رأسمالياً، ولذلك جرت التجارب ولم تنتج وعياً جديداً يخلق نموذج السلطة القائمة على تقاليد الأمم التي سبقتنا لهذا الفعل المقابل للديمومة، ثم إن تفاوت الدخول في بلدان أفقرتها أنظمتها بإشعال الحروب والانقلابات جرّ معه الأمية وتزاحم المدن على حساب الريف، وانهيار البنية الأساسية وتخلف التعليم، وهجرات العقول إلى مناخات أكثر حرية وتطوراً، فأحدثت هذه العوائق أن المواطن نفسه أصبح بلا هوية أمام احتياجاته الضرورية، ولم يعد يهتم بالنظام السياسي لأن الحكم الذي أطلقه على السلف والخلف بات لنفس النموذج الذي يتكرر، ويضاعف الفساد الممنهج.. الإسلام السياسي حاضر في الساحة العربية بنماذج مختلفة، وتختلف الأساليب بين دولة وأخرى وخاصة بمن صعدوا في الربيع إلى السلطة، ما بين من يتظاهر بنظام مرن ولكن تحت سلطة حزبه أو منظمته، وبين آخر يرى أن تجاوز دولة القطر إلى الدولة الإسلامية الكبرى، هو الغاية العليا، ومع الدخول باختبارات الأولويات هل هي للحكم، أم للحصول على المتطلبات الأساسية، واجهت الجماعات الموقف بنفس طرح الأسئلة بأننا ديمقراطيون شكلاً، واستبداديون واقعاً..