منذ وضع إبراهيم - عليه السلام - القواعد من البيت ورفع سقفه، بدأت قلوب البشر تهوي إلى هذا البيت العتيق، وعرفت العرب قداسته وشرفه وشرف خدمة الحجاج، وتسابقت في ذلك بيوت العرب وتفاخرت به حتى بدأ فجر الإسلام في البزوغ فوق جبال مكة، منذ ذلك الحين أصبحت خدمة المسجد واجبا قبل أن تكون تفاخرا، وشهد المسجد الحرام توسعات تاريخية بدأت بالأعمال التي قام بها عمر بن الخطاب، ثم أعمال عثمان بن عفان ثم اهتمت به كل دولة من دول الإسلام التي أشرفت على إدارة المسجد الحرام، لكن رغم ذلك لم يحدث في التاريخ أن اهتمت دولة أو أسرة حاكمة بالمسجد الحرام وتوسعته كما حدث في العهد السعودي، لم ترصد أمة من المسلمين مبالغ وأموالا طائلة كما رصدتها هذه الدولة المسلمة الحديثة التي بعثها الله -عز وجل- لتجدد لهذه الأمة أمر دينها بعد انحطاط شامل للأمة الإسلامية امتد قرونا، فبدأ الاهتمام بالحرم وخدمة الحجاج والتوسعات لمبانيه بأمر الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، ثم أتمها أبناؤه الملك سعود والملك فيصل، ثم جاء الملك خالد ووسع الساحات الشرقية، واهتم الملك فهد بتوسعة الجانب الغربي ثم جاء الملك عبدالله بمشروع التوسعة الكبرى، وذلك بعد أن ازداد عدد زوار البيت الحرام بشكل غير مسبوق نظرا لما شهدته البشرية في السنوات الأخيرة من تطور في السفر الجوي وانخفاض تكلفته فأصبح في مقدور الناس الوصول إلى الحرم بسرعة وببساطة وبأعداد هائلة، لهذا كان لزاما إنجاز توسعة كبرى لم يشهدها الحرم منذ وضع إبراهيم القواعد من البيت، فاعتمد الملك عبدالله بن عبدالعزيز توسيع الحرم المكي على ثلاث مراحل ليستوعب مليوني مصل بعد الانتهاء منها، إضافة إلى توسعة صحن المطاف وهي خطوة صعبة التنفيذ في ظل إقبال المسلمين وتوافدهم اليومي على الصحن للطواف والصلاة. واليوم وتلمسا للطريق الذي سار فيه أبو الأنبياء في عمارة المسجد وكما فعل السلف الصالح من هذه الأمة يأتي الملك سلمان في هذا العهد الزاهر والنهضة الشاملة، بمشروع التوسعة الثالثة استكمالا لما سبقه من مشاريع كبرى، ويخصص المليارات من الريالات لإنجازها في وقت قياسي. إن هذه التوسعة الكبرى الشاملة تأتي استجابة لأمر الله -جل وعلا- بتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، واستجابة لدعوة أبينا إبراهيم الذي سأل الله -عز وجل- أن يكون هذا البلد آمنا وأن يرزق أهله من الثمرات، وعلى طريق الإسلام والحنيفية السمحة، الطريق الذي وضع إبراهيم أصوله وجاء سيد البشر رسول الرحمة -صلى الله عليه وسلم- لينيره للعالمين. فالمملكة التي تسير على هذا النهج القويم منذ اليوم الأول لتأسيسها، تعمل على عمارة الأرض، ونشر هذا الدين بأبهى صورة وتدافع عن حقوق المسلمين وترعى ضعيفهم، وتقيم حدودهم، وتعلم جاهلهم، وتعمل جاهدة على إعادة المسلمين إلى الطريق القويم الذي أقره الله لهم في كتابه المجيد، والمحجة البيضاء التي وضحها لهم نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم. فالتوسعة بكل ما فيها من اهتمام بالمكان، فيها دلالة واضحة على الدور الذي تقوم به المملكة في إصلاح شأن المسلمين، والترحيب بهم وتسهيل عبادتهم وإيصال حقيقة هذا الدين لهم ولغيرهم، وهي في هذا لا تألو جهدا ولو شقت في سبيلها الجبال الرواسي وأنفقت المليارات من أجل رفعة هذا الدين، وأن يتمكن كل مسلم من زيارة هذا البيت وأن ينهل من معين الإسلام الصافي بكل يسر وسهولة. فالاهتمام بالتوسعة إذا ليس مجرد اهتمام بالمبنى والمكان بل هو اهتمام بالإنسان المسلم أولا وراحته وتطهير مكان عبادته، ولهذا فإن أهم عنوان تناقلته صحف العالم الإسلامي مع إطلاق هذه التوسعة هو "وداعا للازدحام في مكة"، وهذا هو المراد، فلقد عملت مشاريع الدولة السعودية على تمهيد الطريق لهذا البيت بإنشاء المطارات العملاقة والطرق السريعة ثم شقت الجبال ووسعت المشاعر المقدسة وسهلت الوصول إليها والتنقل بينها وحلت مشكلة التدافع عند الجمرات، حتى أتت أصعب الخطوات وأكثرها دقة وهي توسعة المطاف، لكن هذا لم يمنع المملكة من أن تمضي في طريقها وأن تخصص المليارات والمليارات لخدمة الإنسان المسلم البسيط، الذي يريد أن يصل لبيت الله ويناجيه دون أن يمنعه من ذلك شيء ويخيفه أمر، وهي سنة إبراهيم الذي وضع قواعد البيت وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم. ولو أن ما خصص من مال لهذه المشاريع تم قياسه بمقاييس أهل الاقتصاد وأهل الاستثمار لما سارت المملكة في هذا الطريق، لكنها قاسته بما عند الله وحده، قاسته بالعوائد التي تعود على الإسلام والمسلمين في كل أقطار الدنيا، قاسته بما سيكسبه المسلم من أجر وفضل إذا استطاع زيارة هذه البلاد ليعرف الدين على حقيقته وينهل من نبعه الصافي.