ما زالت نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة تتفاعل بين محاولات الفهم والتحليل ومبادرات التعامل والتفاعل من قبل جميع الأطراف داخليا وخارجيا، وفي مقدمة هؤلاء حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 2002. فالحزب الذي فقد مع هذه الانتخابات أغلبيته البرلمانية، وبالتالي إمكانية تشكيل الحكومة بمفرده، قد عكف منذ اللحظة الأولى على دراسة النتائج ورسائل الناخبين المتضمنة فيها، باعتبار أن تراجعه بنسبة8.5% يعد رسالة واضحة من الناخب بعدم الرضى عن بعض سياساته ومواقفه،مما أدى إلى عزوف البعض عن الاقتراع، بينما حدا بالبعض الآخر إلى التصويت لأحزاب أخرى، ولا سيما الشعوب الديمقراطي والحركة القومية. ورغم وجود عدة أسباب لتراجع العدالة والتنمية في الانتخابات، على رأسها طول فترة الحكم، واجتماع أحزاب المعارضة ضده، إضافة إلى عوامل إقليمية وخارجية عدة، فإن حزب العدالة يركز حاليا في نقاشاته على أخطائه التي أدت إلى تزعزع ثقة الناخب به، على مستوى السياسات والمواقف والخطاب، باعتبار أن هذه الأسباب الذاتية هي الأهم والأخطر استراتيجيا، وباعتبارها الأقرب لإمكانية التصويب والتعديل أملا في إعادة الثقة المفقودة. " رغم وجود عدة أسباب لتراجع العدالة والتنمية بالانتخابات، يركز الحزب حاليا في نقاشاته على أخطائه التي أدت إلى تزعزع ثقة الناخب به، على مستوى السياسات والمواقف والخطاب، باعتبار أن هذه الأسباب الذاتية هي الأهم والأخطر إستراتيجيا " أردوغان والنظام الرئاسي ويأتي في مقدمة هذه الأخطاء ملف النظام الرئاسي الذي تبناه الرئيس أردوغان وأورده الحزب في برنامجه الانتخابي -وإن لم يجعله شعار حملته- وكان من أهم أسباب تراجع التصويت له، وقد اعترف رئيس الوزراء داود أوغلو في أول مقابلة تلفزيونية له بعد الانتخابات بأن الشعب لم يعط حزبه أغلبية تخوله تغيير نظام البلاد إلى رئاسي، فقد فشل الحزب في شرح الأمر وتبيان إيجابياته والحاجة له من وجهة نظره، ولم يستطع طمأنة المتخوفين من تغول أردوغان على المشهد السياسي في البلاد، وهو الوتر الذي لعبت عليه المعارضة ونجحت إلى حد ما. وقد فاقم هذه المخاوفَ نزولُ الرئيس إلى الميادين بذرائع مختلفة وتنظيمه حملة انتخابية موازية أثارت استياء أطراف عديدة حتى داخل العدالة والتنمية، ليس فقط لأنها أوحت بانحياز الرئيس بشكل يخالف الدستور أو لأنها أكدت طموحه السياسي الكبير، بل أيضا لأنها أظهرت داود أوغلو رئيس حزب ضعيفا غير موثوق بأدائه. فإذا ما أضفنا لهذا المشهد حدة خطاب أردوغان ودخوله في سجالات إعلامية مع أحزاب المعارضة كافة، أمكننا القطع بأن الأخير كان أهم أسباب التراجع، ويبدو أن أردوغان والحزب قد أدركا ذلك، فانعكس ذلك على الأول هدوءا وحكمة وحيادية، وعلى الثاني بمواقف تحتفظ بمسافة محددة من الرئيس، مثل دعم موقف الأحزاب الأخرى التي طالبت أردوغان بعدم المشاركة بمشاورات تشكيل الحكومة والاكتفاء بتكليف أحد الشخصيات بذلك. عملية السلام كما أثبتت الانتخابات أن العملية السياسية مع الأكراد كانت سيفا ذا حدين أضر العدالة والتنمية مرتين، مرة حين انفضت عنه بعض الأصوات نحو حزب الحركة القومية (المتشدد إزاء القضية الكردية)، احتجاجا على ما عدوه تنازلات غير مبررة من الحكومة في مواجهة "الإرهابيين"، وتارة لدى عدم تدخل تركيا في معركة عين العرب/كوباني ثم توقف المحادثات قبل الانتخابات بأشهر وتغليب الخطاب الحاد بين حزبي العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي،وهو ماوصل لدرجة إنكار وجود "قضية كردية" وأدى إلى خسارة نسبة 3%-4% من الأصوات للأخير، يعتقد أن غالبيتهم من "الإسلاميين الأكراد" الذين يصوتون تقليديا للأول. والحال كذلك، فالحزب مدعو لإعادة النظر في طريقة تناوله للعملية السياسية من حيث الشكل والمضمون والأطراف المشاركة، وهو ما بدت بعض إشاراته تظهر من حيث الإصرار على عملية السلام الداخلية ورفض طلب الحركة القومية التخلي عنها تماما كشرط لقبول الائتلاف الحكومي، إضافة للعودة إلى الخطاب الهادئ نسبيا مع الشعوب الديمقراطي مقرونا بخطاب متشدد في مواجهة قيادات حزب العمال الكردستاني. غرور القوة من ناحية أخرى امتلأت الصحف المقربة من الحزب والحكومة في فترة ما بعد الانتخابات بمقالات تحليلية ناقدة، شخّصت عددا من العوامل التي أدت إلى هذا التراجع الكبير، ويتمحور الكثير منها حول فكرة اطمئنان العدالة والتنمية إلى بقائه في الحكم الفترة القادمة، وهو ما جعله يشعر بغرور القوة ويصم الآذان عن الأصوات والأقلام الناصحة له، فضلا عن التسلح بأغلبيته البرلمانية في مواجهة أحزاب المعارضة لتمرير بعض القوانين أو منع بعضها الآخر. " بدأت مراجعات الحزب على مستوى المحافظات، للوقوف على أداء هيئاته التنظيمية في كل محافظة، تمهيدا لتغيير الهرم القيادي في المناطق الأكثر تراجعا في الانتخابات، ولضخ دماء جديدة وشابة في دوائره ضمن خطة متكاملة لمكافحة بعض الترهل التنظيمي والقيادي " ويبدو ملف الوزراء الأربعة الذين كانوا قد اتهموا بالفساد المالي مثالا جيدا، إذ منعت أصوات نواب الحزب الحاكم تحويلهم إلى المحكمة العليا، وهو ما أبقى الملف مفتوحا وأصابعَ الاتهام موجهة للحزب والحكومة حتى اليوم، مع حالة من السخط الشعبي وحتى في داخل أروقة الحزب حيث صوت العشرات من نوابه لصالح تحويل الوزراء إلى المحكمة العليا مخالفين بذلك قرار حزبهم. اليوم، يبدو العدالة والتنمية أقرب لإعادة فتح الملف أو على الأقل تقبل ذلك، أولا لاسترضاء المواطن وإعادة الثقة بالعدالة والتنمية الذي كان القضاء على الفساد أحد شعاراته الثلاثة وقت التأسيس، وثانيا تحت ضغط أغلبية المعارضة القادرة -إن اتفقت واجتمعت- على إحالة الوزراء للمحكمة العليا. من ناحية أخرى، أغضب الحزب أنصاره حين فاجأهم بقوائم انتخابية لم ترض طموحهم وتقل فيها في بعض المناطق الشخصيات المقربة من رجل الشارع، إضافة إلى مرشحين في جنوب شرق البلاد اعتبرهم الأكراد مناوئين للعملية السياسية. ولذلك، يبدو الحزب عازما على إعادة النظر في قوائمه الانتخابية في أي انتخابات قادمة، ولا سيما المبكرة. إضافة إلى ذلك بدأت مراجعات الحزب على مستوى المحافظات، للوقوف على أداء هيئاته التنظيمية في كل محافظة على حدة، تمهيدا لتغيير الهرم القيادي في المناطق الأكثر تراجعا في الانتخابات، في محاولة منه لضخ دماء جديدة وشابة في دوائره ضمن خطة متكاملة لمكافحة بعض الترهل التنظيمي والقيادي الذي اعتراه بسبب طول فترة الحكم والركون لحالة الاستقرار والاستمرار. الانتخابات المبكرة يعرف العدالة والتنمية أنه سيواجه سيناريو الانتخابات المبكرة عاجلا أم آجلا، إما بفشل جهود تشكيل الحكومة خلال 45 يوما من بدء عمل البرلمان، أو إثر أي خلافات متوقعة بين أطراف الحكومة الائتلافية التي ستشكل، بغض النظر عن هوية أطرافها. ولذلك سعى لاستمزاج آراء قياداته وأعضائه وأنصاره على مختلف المستويات للوقوف على أسباب الفشل وسبل تلافيها على المديين القريب والمتوسط، وبدأ العمل على خطين متوازيين: خط مشاورات تشكيل الحكومة، وخط التقييم والتصويب استعدادا للانتخابات. أكثر من ذلك، تبدو جهود تشكيل الحكومة مرتبطة إلى حد ما أيضا بخطط الانتخابات المقبلة، حيث يضع الحزب في حسبانه مدى تأثير اسم وهوية وبرنامج شريكه في الحكومة المزمع تشكيلها على مزاج الناخب وتوازنات المشهد السياسي. ذلك أن حكومة ائتلافية مع حزب الحركة القومية -الخيار الأول لغالبية أعضاء الحزب- سيعني تجميدا لعملية السلام الداخلية واستمرارا لنزيف أصوات الأكراد منه نحو الشعوب الديمقراطي، بينما يتوقع أن يؤدي ائتلاف مع الشعب الجمهوري إلى تغيرات في السياسة الخارجية وتنشيط لعملية السلام،وهو ماقد يعني إعادة بعض الأصوات الكردية في مقابل المخاطرة بخسارة ثقة بعض الإسلاميين والقوميين الأتراك. " يدرك حزب العدالة أن الناخب التركي وجه له "قرصة أذن" -قد تكون تجاوزت الجرعة المطلوبة- ليعبر عن امتعاضه من بعض السياسات والمواقف،ولأنه أمام سيناريو انتخابات مبكرة، فهي فرصة ليقلب المحنة المؤقتة إلى منحة مستدامة " فضلا عن أن الائتلاف الثاني يبدو أقرب للصمود فترة أطول من الأول، بسبب اعتماده على دعم نسبة أكبر من نواب البرلمان، وغياب الخشية من الانتقال البيني لأصوات الناخبين، واطمئنان السوق ورؤوس الأموال أكثر في ظله. لكن المهمة الأولى التي تنتظر العدالة والتنمية في حال فرض سيناريو الانتخابات المبكرة نفسه هي إعادة صياغة سريعة لبرنامجه الانتخابي وتخفيف حدة الخطاب الموجه لأحزاب المعارضة خاصة الشعوب الديمقراطي، وإثباته عمليا حسن تلقيه لرسالة الناخب بانعكاس ذلك على الأقوال والأفعال والمواقف، وهو ما رأينا بعض تجلياته مؤخرا. كما يتبدى حرص الحزب على رضى الناخب والتواصل المباشر معه من خلال طلب رئيسه داود أوغلو من عدد كبير من النواب -خاصة في مناطق الجنوب الشرقي ذات الأغلبية الكردية- البقاء في دوائرهم الانتخابية وعدم المشاركة في اجتماعات الحزب المركزية في أنقرة إلا في حالات الضرورة. في الخلاصة، يدرك حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا منفردا منذ العام 2002 أن الناخب التركي وجه له "قرصة أذن" -قد تكون تجاوزت الجرعة المطلوبة- عبر صناديق الاقتراع ليعبر عن امتعاضه من بعض السياسات والمواقف، ويعرف أنه أمام سيناريو انتخابات مبكرة بعد أشهر. وهو الأمر الذي قد يمكنه من قلب المحنة المؤقتة إلى منحة مستدامة، ويعطيه فرصة لتجاوز الأخطاء وتدارك الهفوات وإرضاء الناخب من خلال تجديد البرنامج والخطاب والكادر، مما قد يؤهله للعودة مرة أخرى للأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة منفردا، ليمتلك فرصة تطبيق رؤيته الخاصة بتركيا الجديدة عام 2023.